تضرر الاقتصاد المصري المُثقَل بالديون بالفعل بسبب الحرب في أوكرانيا وارتفاع الدولار الأمريكي، وهروب نحو 20 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية إلى الخارج هذا العام. إضافة إلى أنَّ الحرب أثرت في واردات القمح وتدفقات السياح من روسيا وأوكرانيا اللتين اعتمدت عليهما مصر.
ويقول محللون إن اتفاق مصر المبدئي مع صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل بقيمة 3 مليارات دولار قد يساعد في استعادة بعض ثقة المستثمرين في الدولة الواقعة في شمال إفريقيا، لكن التقدم الحقيقي يتوقف على رغبة القاهرة في متابعة الإصلاح بمختلف أشكاله.
مصر تسعى لإتمام اتفاق مع صندوق النقد لإنقاذ عملتها
يقول هاميش كينير، المحلل في شركة Verisk Maplecroft الاستشارية للمخاطر، لموقع Middle East Eye البريطاني: "في حالة الموافقة عليها، ستفتح الاتفاقية مع صندوق النقد مزيداً من الاستثمارات من مقرضين آخرين إقليميين ومتعددي الأطراف وتساعد مصر على خدمة ديونها الخارجية".
وبعد انخفاض بنحو 21% أمام الدولار هذا العام، انخفض الجنيه المصري بنسبة 15% أخرى يوم الخميس 27 أكتوبر/تشرين الأول، مسجلاً أدنى مستوى قياسي له مقابل الدولار.
أعلن البنك المركزي المصري عن رفع أسعار الفائدة بنقطتين مئويتين والتحول إلى "سعر صرف أكثر مرونة"، وذلك قبل فترة وجيزة من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
ويشك محللون في أنَّ مصر تستغل احتياطياتها من العملات الأجنبية لدعم العملة، وهي خطوة نفاها البنك. وتراجعت احتياطيات مصر من النقد الأجنبي من حوالي 41 مليار دولار منذ فبراير/شباط إلى نحو 33 مليار دولار في أغسطس/آب، وفقاً للبنك المركزي.
وقالت كالي ديفيس، الخبيرة الاقتصادية في شركة Oxford Economics المتخصصة في شؤون شمال إفريقيا: "إنَّ قرار خفض قيمة العملة والتحول إلى ما يسميه صندوق النقد الدولي (نظام سعر الصرف المرن الدائم) أمرٌ واعد".
صندوق النقد معنيّ بخفض قيمة الجنيه المصري
في حين أنَّ السماح بتحديد سعر الصرف بناءً على قوى السوق يمكن أن يساعد في جذب المزيد من الاستثمار الأجنبي في مصر، يرجح المحللون أيضاً أنه سيزيد الضغط على التضخم، الذي وصل إلى أعلى مستوى له خلال أربع سنوات عند 15% في سبتمبر/أيلول على خلفية ارتفاع أسعار الغذاء وتكاليف الوقود.
وقال المحلل هاميش كينير إنَّ "تخفيض قيمة العملة جزء لا يتجزأ من نوع الإصلاحات التي يتوقعها صندوق النقد الدولي من مصر، لكن التكلفة قصيرة الأجل هي مزيد من الألم للمستهلكين المصريين؛ نظراً لأن ضعف الجنيه يقوض قوتهم الشرائية".
وفي إطار صفقة صندوق النقد الدولي، وافقت مصر على تخفيف سلسلة من قيود الاستيراد التي فرضتها في مارس/آذار لحماية احتياطياتها الأجنبية. ومن المقرر أن تنتهي قاعدة إلزام الشركات بالحصول على خطابات اعتماد للمشتريات الأجنبية في مارس/آذار. وقد واجهت مصر مؤخراً نقصاً في المعروض من السلع المستوردة.
بالإضافة إلى ذلك، اتخذت مصر تدابير للتخفيف من ارتفاع الأسعار. وأعلنت الحكومة، يوم الأربعاء 26 أكتوبر/تشرين الأول، رفع الحد الأدنى للأجور لموظفي القطاع العام من 2700 جنيه (137 دولاراً) إلى 3000 جنيه (حوالي 152 دولاراً).
لكن كل ذلك لا يكفي.. يجب إصلاح الاقتصاد المصري
من جهتها، تقول ميريت مبروك، المدير المؤسس لبرنامج مصر التابع لمعهد الشرق الأوسط، لموقع Middle East Eye: "كانت هناك مناقشات حول هذا القرض منذ أوائل مارس/آذار. وقد أعطت الحرب الروسية على أوكرانيا زخماً هائلاً للمحادثات. وبالنظر إلى صفقات صندوق النقد الدولي، فهذه صفقة جيدة"، حسب تعبيرها.
ويمكن توسيع القرض، المتوقع سداده على مدى أربع سنوات، بمقدار مليار دولار أخرى إذا وافق الصندوق على منح تمويل إضافي لمساعدة مصر في مكافحة تغير المناخ. كما يمكن أن يمثل تصويتاً رمزياً بالثقة في مصر؛ ما يشير إلى عودة المستثمرين الذين فروا منها إلى أسواق آمنة أكثر.
لكن بعض الاقتصاديين قالوا إنَّ مصر بحاجة إلى مزيد من الأموال، وتغييرات اقتصادية هيكلية عميقة، لتغطية ديونها الهائلة وإعادة تشكيل الاقتصاد مع انخفاض قيمة عملتها مقابل الدولار، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة.
أهمية كفّ يد الجيش المصري عن الاقتصاد
ومع ذلك، حذر تيموثي كالداس، الخبير في الاقتصاد السياسي المصري في معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط، من أنَّ مصر لديها فجوة تمويلية تصل إلى 40 مليار دولار في العام المقبل. وقال إنَّ إحجام الصندوق عن تقديم المزيد قد يشير إلى المستثمرين بأن يبقوا بعيدين.
وقال كالداس لصحيفة The New York Times الأمريكية إنَّ السلطات المصرية خفضت قيمة الجنيه للحصول على قرض عام 2016؛ ما أدى إلى إغراق الملايين من المواطنين في براثن الفقر، واضطروا للطرق على باب الصندوق ثلاث مرات أخرى في غضون ست سنوات.
وأوضح خبير الاقتصاد السياسي: "لقد عدنا إلى نقطة الصفر، بل أسوأ من ذلك"؛ لأنَّ مصر صارت مدينة بمبالغ أكثر بكثير، بينما صار الوصول إلى التمويل أقل بكثير مما كان عليه في عام 2016 بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي.
وأضاف أنه "إذا لم تُقيّد مصر دور الجيش في الاقتصاد بحيث يمكن للقطاع الخاص أن ينمو؛ ستُستنفَد هذه الأموال بسرعة كبيرة، وسنعود على الأرجح إلى الحاجة لتمويل طارئ جديد قريباً جداً".
مصر ثاني أكبر مدين لصندوق النقد في العالم
ويقول محللون إنَّ نجاح الاتفاق سيعتمد على استعداد القاهرة لمواصلة الإصلاح. وقد اقترضت مصر حوالي 18 مليار دولار من صندوق النقد الدولي؛ ما يجعلها ثاني أكبر مدين للصندوق بعد الأرجنتين.
وفي مؤتمر صحفي يوم الخميس 27 أكتوبر/تشرين الأول، صرّح مسؤولون مصريون بأنَّ الشركاء الدوليين تعهدوا أيضاً بتقديم 5 مليارات دولار للمساعدة في تمويل فجوة التمويل الخارجي في مصر، التي تُقدّر بنحو 40 مليار دولار هذا العام والعام المقبل.
وتقول الخبيرة الاقتصادية كالي ديفيس إنَّ المقياس الرئيسي لرغبة مصر في الإصلاح ينعكس في ما إذا كانت ستسمح بمزيد من خفض قيمة الجنيه.
وأضافت بصحيفة The New York Times: "هذه ليست المرة الأولى التي تتجه فيها مصر إلى تعويم عملتها في الفترة التي تسبق صفقة مع صندوق النقد الدولي. وعادةً ما تتبع عمليات تخفيض قيمة العملة صفقات صندوق النقد الدولي، يليها عودة إلى التدخل في قيمة العملة".
وتابعت ديفيس: "ما زلنا متشككين في أنَّ البنك المركزي المصري سيلتزم بالكامل بتحرير الجنيه المصري هذه المرة".
"الإصلاح الشامل يهدد المكانة المتميزة للجيش في الاقتصاد"
لكن ربما لا يكون لدى الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في الشرق الأوسط خيار؛ فما يقرب من ثلث المصريين يعيشون في فقر، وملايين آخرون يقفون على أعتابه. وتضخم الدين الخارجي لمصر من 37 مليار دولار في 2010 إلى 155 مليار دولار في يونيو/حزيران.
في غضون ذلك، أشرف الرئيس عبد الفتاح السيسي على إنفاق مبالغ ضخمة على مشروعات البنية التحتية مثل العاصمة الجديدة الفخمة. وتعهدت القاهرة أيضاً بتعزيز القطاع الخاص.
تتطلع دول الخليج الغنية بالطاقة، من قطر إلى المملكة العربية السعودية، إلى الاستثمار في مصر. لكن التعهدات بخصخصة الشركات تزامنت أيضاً مع اندماج الجيش في كل جانب من جوانب الحياة الاقتصادية تقريباً.
قد يكمن أحد المقاييس الرئيسية لاستعداد مصر لإصلاح اقتصادها في ما إذا كان الرئيس السيسي سيتراجع عن الدور المهيمن للجيش في الاقتصاد.
قال هاميش كينير، المحلل في شركة Verisk Maplecroft الاستشارية للمخاطر: "الأسئلة الأكثر تعقيداً هي إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، لا سيما تلك المرتبطة بالجيش. إذ إنَّ ثقلها يشكل عبئاً على نمو القطاع الخاص، لكن الإصلاح الشامل يهدد المكانة المتميزة للجيش في الاقتصاد؛ ما يجعل مثل هذه الإصلاحات مستبعدة".