اقتصادياً ومالياً تُعد مسألة الاستدانة بالعموم مسألة مفروغاً من أهميتها وضرورتها لمختلف أطراف الاقتصاد، بل إنه، وفي حالات كثيرة، تكون الاستدانة هي الخيار الأمثل للأفراد والشركات؛ بل حتى في حالة وجود نقود كافية للإنفاق، وذلك -مثلاً- بسبب أن الضرائب تُحتسب على أرباح الشركات بعد دفع الفوائد.
أما في حالة الدول، فإن أهمية الديون أوضح من ذلك، فالدين الحكومي هو ببساطة نتيجة تراكم عجوزات الميزانية خلال السنوات المختلفة، وهذا العجز الناتج عن تفوق النفقات على الإيرادات ليس اختيارياً عادة، فالحكومات تقدّر نفقاتها بناء على الالتزامات الواجب القيام بها في الدولة والمجتمع، وقد يكون من المدمر على الاقتصاد أن تقتصر الدولة في إنفاقها على ما يمكنها توفيره من إيرادات.
إذن، فلماذا تشكل الديون مشكلة لمصر مثلاً؟ لماذا توصف ديون مصر البالغة 392 مليار دولار بجبل من الديون منها 137 مليار دولار ديناً خارجياً، ونسبة هذه الديون من الناتج المحلي الإجمالي المصري بسعر الدولار الحالي 97%، وتكون مصر في أزمة اقتصادية بسببها؛ بينما لا تكون اليابان في نفس الوضع رغم أن ديون حكومتها بلغت عام 2020 ما نسبته 216% من الناتج المحلي الإجمالي، بل توصلها بعض التقديرات إلى 263% في نهاية عام 2021؟
من المهم اليوم الإجابة على مثل هذه الأسئلة؛ خصوصاً مع التوصل إلى اتفاق دين جديد بين مصر وصندوق النقد الدولي، ومعه الهبوطان الأخيران في قيمة الجنيه المصري من أقل من 16 جنيهاً للدولار الواحد في مارس الماضي، إلى أكثر من 22 جنيهاً للدولار الواحد اليوم، وهي نتيجة طبيعية لحاجة مصر للديون، وعموم إدارتها لهذا الملف.
لماذا ينجح الدين في اليابان ويفشل في مصر؟
لنحاول وضع تعريف مختلف قليلاً للدَّين، يمكننا أن نقول إن الدين اليوم هو تعجيل لإيراد يتوقع تحصيله في المستقبل، مع الحاجة إليه في الحاضر، فبدلاً من انتظار حصوله مستقبلاً يؤخذ من طرف ثانٍ مقابل ثمن ما (الفائدة)، وهذا يعني استفادة الطرف المدين في المستقبل، واستفادة الطرف الدائن من فائض نقوده في الحاضر؛ وذلك لأنه يعوّض بالفائدة عن تخليه عن الانتفاع بنقوده اليوم.
ولكن الفائدة تشمل أيضاً تعويض الدائن عن مقدار مخاطرته في ائتمانه المدين على سداد الدين في المستقبل، فكلما كانت الثقة أكبر بقدرة المدين على السداد كان الثمن الذي يطلبه الدائن أقل.
على هذا الأساس نفهم الفرق الأول بين مصر واليابان؛ فالاقتصاد الياباني أكبر وأكفأ بما لا يُقارن بالاقتصاد المصري، والدائنون في العالم أكثر ثقة بقدرته على توليد إيرادات كافية مستقبلاً لسداد الديون، وهو أول تفسيرات ظهور مصر على رأس قائمة الدول الأكثر تهديداً بالتعثر، وعدم ظهور اليابان عليها.
والأسباب الأخرى متفرعة عموماً عن السبب الأول، مثل قدرة اليابان على طباعة النقود؛ خصوصاً مع كون عملتها إحدى العملات الرئيسية في العالم، وهي بذلك تستطيع خلق النقود التي تحتاجها محلياً، وتستطيع بذلك تمويل ديون أكبر وأكبر بعملتها المحلية، فالنظرية النقدية الحديثة تنص على عدم وجود قيود سيولة على الدول التي تمتلك عملات عالمية مثل اليابان.
يبقى أمام اليابان تخوف وحيد في مسألة طباعة النقود، وهو التخوف من التضخم، وهو القيد الوحيد أمام مثل هذه الدول، ولكن هذا القيد لا ينطبق على حالة اليابان، التي تحاول منذ عقود تحقيق معدل تضخم صحي (حول 2%)، دون أن تنجح في ذلك في أغلب الأعوام، وذلك لإخراج اليابان من حالة الركود الطويلة، وحالة النمو تعني تحفيزاً للطلب، وهو يعني تحقيقاً لمعدلات تضخم أعلى من المعدلات الحالية.
هذا لا يعني أن اليابان تستطيع الاستدانة إلى ما لا نهاية، ولكن ذلك يعني أن سعة تحمل الاقتصاد الياباني لنسب ضخمة جداً من الاستدانة أكبر بكثير من سعة الاقتصاد المصري، بالإضافة إلى الإدارة اليابانية الأكفأ للاقتصاد عموماً وملف الدين خصوصاً.
هذه باختصار عوامل نجاح الاستدانة في اليابان، فلم تفشل الاستدانة على الجهة الأخرى في مصر؟
ببساطة؛ لأن المستقبل غير واضح للسداد بشكل صحي في مصر، فإذا كانت الاستدانة تعجيلاً لإيراد مستقبلي، فعلى الإيراد المستقبلي أن يكون أكبر من الثمن الحالي للاستدانة، والظاهر أن حصة الفوائد من إجمالي نفقات الدولة المصرية في تضخم كبير منذ 2010 وحتى اليوم، فهي لم تبلغ في عام 2010 أكثر من نحو 21%، ولكنها قفزت عام 2020 إلى 33%، وقفزت في بعض السنوات إلى قرابة 40% كما في عامي 2018-2019، كما يظهر من بيانات الموازنات الحكومية، ما يعني أن جزءاً كبيراً من الديون الجديدة تذهب لسداد الديون القديمة وكلفها.
يمكن اقتراح طريقتين لرفع إيرادات الدولة، أولاهما استثمار الدولة بشكل مباشر، واستثمار الديون بشكل أكبر في مشاريع تدر إيراداً على الدولة لاحقاً، وهو توجه مرفوض من قِبل المؤسسات الدولية مثل الصندوق بشكل عام، فهذه المؤسسات تتبع الرأي القائل بانعدام فعالية الدولة ومؤسساتها، وضرورة الخصخصة وترك إدارة المشاريع للشركات الربحية ضمن بيئة تنافسية، كما أن بيئة الأعمال في مصر، والتي تتميز بتركز عالٍ للثروة والقوة، تمنع إمكانية تحصيل الفوائد من مثل الحل الذي تقترحه المؤسسات الدولية.
والطريقة الأخرى هي رفع الضرائب وتقليل النفقات؛ وهو ما حاولته وتحاوله مصر منذ سنوات، دون أن تنجح في وقف نزيف المالية العامة، أو على الأقل توقف اضطرارها لاتخاذ قرارات اقتصادية مؤلمة مثل تخفيض سعر الجنيه، وبالطبع فإن الضغط على الفئات الشعبية المصرية يأتي من الجهات جميعها نتيجة لهذه السياسة؛ ارتفاع التضخم بسبب انخفاض قيمة العملة، انخفاض الدعم الحكومي نتيجة للتقشف، وربما لاحقاً ارتفاع الضغوط المالية نتيجة لرفع الضرائب.
يمكن نظرياً أن تتجنب الدولة المصرية حل هذه المشاكل على حساب الفئات الأكثر ضعفاً، ولكن ذلك يعني تحميل الفئات المتنفذة داخل الدولة وقطاعات الأعمال لعبء تمويل الموازنة، وهو حل غير ممكن عملياً بسبب تركز السلطة والثروة في يد هذه الفئات أصلاً، بل ربما استفادتها من الوضع القائم؛ بدءاً من إمبراطورية الجيش الاقتصادية، وانتهاءً بالبنوك والشركات العملاقة؛ والتي لم تتوقف أرباحها ومراكمتها للثروة رغم كل المصاعب الاقتصادية.
إلى أين؟
أخيراً؛ فإن وضع ديون مصر حالياً ليس وضعاً كارثياً بالضرورة، بل لا يزال وضعاً قابلاً للسيطرة والحل ولو نظرياً، على الأقل، على افتراض قدرة الدولة المصرية مستقبلاً لتعديل نهجها ونموذجها الاقتصادي، وإدارة الدين بشكل آخر، وتحقيق تعديلات جوهرية على الاقتصاد تزيد من قدرته على سداد الديون لاحقاً، وهذا سيعني في نظر الأسواق المالية تخفيضاً لكلف الديون الحالية والقادمة بشكل تلقائي.
ولكن إذا نظرنا إلى الاتجاهات العامة لنمو الناتج المحلي الإجمالي ومقابله نمو الديون عامة والدين الخارجي تحديداً، ثم افترضنا أن الوضع سيستمر على ما هو عليه، فإن مصر ستصل إلى نسب دَين أعلى بكثير مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، وفي نحو 10 سنوات فقط، لتصل إلى نفس النسب التي وصل إليها لبنان عشية انهيار الاقتصاد اللبناني.
كل ذلك بافتراض أن نسب نمو الاقتصاد المصري منذ عام 2016، ومعها نسب نمو الدين الخارجي المصري في نفس الفترة، ستستمر خلال السنوات القادمة. لا يعني ذلك أن الاقتصاد المصري سينهار عند تلك النسب نفسها، فالاقتصاد المصري أكبر من الاقتصاد اللبناني وبموارد أكثر بما لا يقاس، ولا يعيش حالة من انعدام الاستقرار السياسي، ولا مهددة بشبح حرب أهلية سابقة، أو بتنازع طوائف مختلفة للسلطة؛ لكن ذلك يدعو لدق ناقوس الخطر منذ الآن، لا تأجيل المشكلة للمستقبل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.