في مؤتمر اقتصادي استمر لثلاثة أيام ما بين ٢٢-٢٤ أكتوبر/تشرين الأول الجاري، افتتحه رأس النظام المصري، عبدالفتاح السيسي بخطاب عن الأوضاع الاقتصادية، ومن جديد حمّل ثورة يناير كوارث وفشل سياساته وحكومته، معتبراً ما جرى في ٢٠١١ بمثابة إعلان وفاة الدولة المصرية.
خاطب السيسي الشعب قائلاً لم أقدم لكم وعوداً جميلة، بينما خاطب الشركاء الاستراتيجيين خطاب عتاب شديداً لتخليهم عنه.
منذ شهور تعيش مصر أزمة اقتصادية طاحنة تتعلق بانخفاض الاحتياطي من النقد الأجنبي، واحتمالية مرتفعة للتعثر عن الوفاء بالديون، وتجاوز سعر الصرف الرسمي للنقاط التي كان قد وصل إليها في السوق السوداء عام ٢٠١٦ وقبيل التعويم مباشرة، وتتعلق أيضاً بأزمة في الواردات، من سلع أساسية كالأعلاف، أو توفير الاعتمادات اللازمة من قبل البنوك للحكومة والموردين لإنهاء أزمة المواد الغذائية الأساسية العالقة في الموانئ منذ شهور، والمعطلة بقرارات من النظام المصرفي المتعثر عن حلها، والتي تنعكس على أسعار كل شيء بالداخل فقط من أجل تثبيت سعر الصرف، والذي أصبح المطلب الأساسي للمؤسسات المالية الدولية تحريره بالكامل دون إدراك عواقب ذلك.
صندوق النقد ودول الخليج.. هل تخلى الحلفاء الاستراتيجيون عن السيسي؟
أواخر مارس الماضي بدأت بعض المواقع الصحفية المحلية والقنوات الدولية تسرب أخباراً حول مفاوضات مصرية جديدة مع صندوق النقد الدولي من أجل قرض جديد، متسائلين عن استعداد القاهرة لتكرار سيناريو عام ٢٠١٦، ومنذ يوليو/تموز الماضي أعلن النظام المصري أنه يتفاوض مع صندوق النقد من أجل قرض جديد، كانت التكهنات حينها تدور حول ١٠ مليارات دولار.
وفقاً لتقرير لموقع "مصراوي"، نقلاً عن تقرير لبنك "بي إن بي باريبا"، كان يتوقع أن تنطوي المفاوضات في النهاية على قرض "بحجم لائق" يبلغ 10 مليارات دولار أو أكثر، للتعويض عن تقييد وصول مصر المتزايد إلى أسواق السندات الدولية والديون. فيما أشار تقرير آخر لذات الموقع حينها، نقلاً عن خبراء توقعات، بأن يكون القرض ما بين ١٥-٢٠ مليار دولار، حيث قال المحللون الذين تحدثوا لمصراوي حينها إن البرنامج الجديد سيكون بمبلغ كبير نظراً لارتفاع الفجوة التمويلية لمصر خلال السنوات المقبلة، كما أنه يتطلب إصلاحات تستلزم تمويلاً كبيراً.
تواجه مصر ضغوطاً على الموازنة العامة للدولة، مع ارتفاع تكاليف توفير السلع الأساسية، وخروج استثمارات الأجانب من أدوات الدين الحكومية، الأمر الذي تعزيه الحكومة المصرية منذ أشهر لتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، حتى إنها شكلت لجنة لإدارة أزمة تداعيات تلك الحرب، وأصبحت الشماعة الجديدة التي تعلق عليها الحكومة المصرية فشل سياساتها منذ ٢٠١٣.
مع الوقت تضاءلت آمال النظام المصري في صندوق النقد الدولي؛ فتارة يلجأ للأوروبيين للضغط على الصندوق والمؤسسات المالية الدولية من أجل تخفيف الشروط التي لم يعد المصريون يحتملونها، أو للدفع بهذه المؤسسات لتسريع وتيرة المفاوضات، ووفقاً لتقرير لشبكة "رصد"، صرح السيسي، خلال المؤتمر الصحفي مع المستشار الألماني في ١٨ أغسطس/آب الماضي بأن "الغذاء والطاقة أزمات ضاغطة على اقتصادنا، وتتسبب في أزمة تضخم هائل، وتجعل حالة الاستقرار على المحك في مصر، والواقع في بلادنا لا يتحمل المعايير المعمول بها حالياً لدى مؤسسات التمويل الدولي". وذلك في إشارة إلى دعوة الدول الأوروبية للضغط على المؤسسات المالية الدولية من أجل تمرير القرض المتعثر لمصر.
بعدها بأيام وصفت الصحافة الخليجية، ومن بينها موقع إندبندنت عربية، القرض بالمأزوم، ونشرت توقعات تشير إلى أنه في حدود ٥ مليارات دولار أو أكثر، وأن المفاوضات الدائرة بين مصر وصندوق النقد الدولي تكشف عن نقاط خلافية عدة تمثل نقاطاً جوهرية من جانب الصندوق، لكنها في المقابل تتمتع بحساسية مفرطة من جانب الحكومة، وأن الصندوق يطلب من الحكومة رفع الدعم عن رغيف الخبز والمنتجات البترولية والطاقة والكهرباء، وتعويم كامل للجنيه مقابل الدولار، وأن يباع بقيمته الحقيقية في الأسواق العالمية بشكل سريع، وهو ما ترفضه الحكومة المصرية؛ نظراً لحساسية القرارات في ظل الغلاء المشتعل في الأسعار محلياً.
لا خلاص إلا في الداخل
بعدما تعثرت المفاوضات مع صندوق النقد ووصلت إلى قرض بالحدود الدنيا وبشروط قاسية فيما يبدو، ورفض الأشقاء في الخليج إيداع أية مبالغ دون الحصول على حصة في الشركات الاستراتيجية التي تمتلكها القوات المسلحة، كان لابد من مؤتمر اقتصادي جديد يستجدي فيه الداخل والخارج معاً، فخرج علينا في المؤتمر الاقتصادي يوم ٢٢ أكتوبر/تشرين الأول ليعلن أن الأشقاء والأصدقاء أصبحت لديهم قناعة أن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى، بعدما قدموا لها المساعدات على مدى سنوات لحل الأزمات والمشاكل، مردفاً ما دمنا لا نساعد أنفسنا فلن يقوى عودنا ونقف، وأن الحلول لابد أن تكون أكبر من التحديات.
عندما نضع هذه التصريحات مع تصريحه "أن الأزمة الاقتصادية الراهنة أكبر من الدولة المصرية كحكومة وكقيادة سياسية، لكنها ليست أكبر من الدولة المصرية كشعب، مطالباً الجميع بتحمل مسؤولية الأزمة معه". ندرك أن النظام في أزمة شديدة، ولعل أحد مظاهرها رد المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي بتفاعل واسع وصل للقنوات الدولية مثل "بي بي سي" وغيرها، بمشاركة فيديوهات لوعوده الانتخابية وغير الانتخابية التي تطالبهم بالصبر مرة سنتين، ومرة أخرى ستة أشهر، وغيرها، لكي يروا نتائج المشروعات العملاقة التي سار الرجل فيها من دون استشارة أحد.
لدى هذا الخطاب بعد سياسي داخلي يرتبط بأنه أيقن تماماً أنه لا خلاص له اقتصادياً إلا في الداخل، فهل يتحمل الداخل كلفة خياراته الاقتصادية الفاشلة بعد كل ما فعل به من كوارث؟ وبعدما رفع الدعم عن أغلب القطاعات تقريباً، أو جعل قيمته الحقيقية شديدة التواضع بسبب التضخم، وبعدما أطلق حواراً سياسياً شكلياً تقر المؤسسات الدولية والحلفاء الغربيون للنظام والمؤسسات الحقوقية أنه، وإن أطلق العشرات، فإنه لا يزال يجدد حبس عشرات الآلاف خارج نطاق القانون.
عرق الجيش خط أحمر
في ١٤ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٢ نشر موقع العربي الجديد تقريراً بعنوان "مصر.. محاولات لإقناع المؤسسة العسكرية ببيع بعض الأصول"، يشير التقرير إلى أن محاولات إقناع الحلفاء الاستراتيجيين للنظام بإيداع أموال في البنك المركزي المصري لتعزيز فرص مصر في الحصول على القرض قوبلت بالرفض من قبل السعودية والإمارات، وطرحت الأخيرة تصوراً مثلت فيه استثمارات تابعة للقوات المسلحة بشكل مباشر 30% مما تستهدف الاستحواذ عليه.
وبحسب مصدر اقتصادي دولي مطلع على المفاوضات الجارية بين الحكومة المصرية والصندوق، فإن المفاوضات "تشهد تعثراً في الوقت الحالي، ما استدعى سفر وزيرة التعاون الدولي رانيا المشاط، في محاولة لحلحلة موقف إدارة الصندوق، المتمسك بعدم صرف أية دفعات من القرض قبل إحداث مصر زيادة في الاحتياطي النقدي بالبنك المركزي، يحسّن من وضع العملة المحلية".
كان السيسي يعوّل كثيراً على طرح مجموعة من الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية في البورصة، في ظل اهتمام بالغ من جانب الصناديق الخليجية بهذه الفئة من الشركات، لكن يبدو أن خلافاً وتبايناً كبيراً وقع بين قادة المؤسسة العسكرية، والسيسي، بشأن خطوة طرح الشركات المملوكة للقوات المسلحة في البورصة، ما أدى لتأجيل تلك الخطوة التي كان مقرراً أن تكون أولى حلقاتها نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، ما أثر سلباً على حجم العوائد الدولارية التي كانت تعوّل عليها الحكومة المصرية في المفاوضات مع صندوق النقد، طالبت قيادات الجيش السيسي بأن يكون طرح شركاتهم هو الحل الأخير، وأن يعيد طرق أبواب الخليج مرة أخرى.
ووفقاً للتقرير طلبت مصر من كل من السعودية وقطر والإمارات والكويت، الدفع بودائع دولارية تقدر بنحو 2.5 مليار دولار، هذا بخلاف مسار المفاوضات الجارية بشأن الاستحواذات الاستثمارية من جانب الصناديق الخليجية على عدد من الشركات المصرية، وأن القاهرة "تلقت ردوداً سلبية من كل من السعودية والإمارات بشأن المطلب الخاص بتقديم ودائع، مؤكدتين استعدادهما للانخراط الجاد في أية مفاوضات بشأن استحواذات جديدة تطرحها القاهرة".
وفي هذا السياق يمكن تفهم الحركة المكثفة لرئيس الوزراء والوزراء لمحاولة الابتعاد عن الحل الأخير، فوفقاً لصحيفة اليوم السابع، بتاريخ ٢٥ أغسطس/آب، غادر الفريق أول محمد زكي القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي، على رأس وفد عسكري رفيع المستوى متوجهاً إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، في زيارة رسمية استغرقت عدة أيام، لم يبد الأمر مجرد لقاءات عسكرية روتينية، بل يرجح أن الأمر تطرق لفكرة شركات الجيش ومحاولة تخفيف الضغط الدولي من أجل طرحها في السوق أمام الاستثمارات العربية والدولية، وفي مطلع هذا الشهر التقى مصطفى مدبولي بالسفير القطري لمحاولة زيادة الاستثمارات، وكذلك كانت زيارة وزير النقل لقطر في إطار محاولة إيجاد حل لهذه المعضلة، كما تتحرك وزارة الخارجية ووزارة التعاون الدولي بكثافة لمحاولة إقناع الصندوق والشركاء الأوروبيين، ومؤخراً تأتي المحاولات الخاصة باستقطاب أموال المصريين في الخارج والتي رغم طرح عدة مشروعات لاستقطابها لا يبدو أنها ستتجه للتزايد، ولن تفي مطلقاً بالحجم المطلوب من الأموال للوفاء بالديون.
يبدو أن الأمور لا تسير على هوى السيسي إذاً، لأن الجنرالات رفضوا طرح شركاتهم التي يعتبرونها عرقاً خالصاً للجيش، ويخافون من فقدان الامتيازات الاقتصادية التي كسبتها المؤسسة خلال فترة حكمه في سبيل الإبقاء عليه، كما أن الداخل الذي تحمل ما لم يتحمله شعب آخر طوال سنوات حكمه لم يعد قادراً على احتمال المزيد في إطار التنصل من أي وعود بالتحسن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.