عندما كان الصبية أبناء جيله يلعبون ويركضون غير مُبالين بأشعة الشمس الحارقة، كان "ابن الشاطر" منهمكاً في مراقبة الضوء والظلّ، ومنشغلاً في شروق الشمس وغروبها. إنه علاء الدين بن علي بن إبراهيم، الفتى الذي سيُصبح لاحقاً "فلكي العرب".
عاش ابن الشاطر بالقرن الرابع عشر في الشام، وكان أول من أكد أن الأرض تدور حول الشمس وأن القمر يدور حول الأرض، مُبطلاً نظرية الإغريقي بطليموس الذي كان يقول إن الأرض هي مركز الكون وأن كل الكواكب تدور حولها.
سبق ابن الشاطر في هذا الاكتشاف المهم العلماء الأوروبيين الذين جاءوا من بعده، وعلى رأسهم البولندي ميكواي كوبيرنيك، الذي عاش في أواخر القرن الخامس عشر والنصف الأول من القرن السادس عشر، والذي يعتبره الأوروبيون مؤسّس علم الفلك الحديث.
يعرفه المؤرخون وعلماء الفلك بلقب "ابن الشاطر"، ولكن اسمه الكامل هو أبو الحسن علاء الدين بن علي بن إبراهيم بن محمد بن المطعم الأنصاري.
عاش يتيم الأب.. وأصبح ثرياً بفضل براعته في تطعيم العاج
وُلد أبو الحسن علاء الدين عام 704 هجرياً (1304 ميلادياً) في مدينة دمشق التي عاش فيها معظم حياته وتوفي بها عام 1375. ووفقاً لموقع "قصة الإسلام" فإنّ والده كان مؤذناً في المسجد الأموي، فيما كان جدّه كبير المؤقِّتين لمواقيت الصلاة بالمسجد ذاته.
توفي والد أبو الحسن عندما كان في السادسة من عمره، فكفله جدّه الذي أحب من خلاله علم التوقيت، وأخذ عنه شغف البحث في أسرار الكواكب والنجوم. وبعد وفاة جدّه، عاش مع ابن عم أبيه وزوج خالته الذي علّمه حرفة "تطعيم العاج"، التي تتطلب دقة ومهارة كبيرتين.
برع ابن الشاطر كثيراً في تلك الحرفة إلى درجة أنه وضع تصميماتٍ جديدة لتطعيم أخشاب الأبواب، والنوافذ، والجدران، والأسقف في المساجد والقصور. كما برع في تطعيم أخشاب الأثاث المنزلي، وصنع ألعاباً للأطفال من العاج الملوّن الصافي.
معرفته الجيدة بعلم الرياضيات شكّلت عاملاً أساسياً في براعته بالمهنة، وذلك لاستعماله الأشكال الهندسية في الزخرفة بشكلٍ دقيق. وقد كان في عصره أحد أشهر حرفيّي تطعيم العاج بالشام كلها.
كسب بفضل تلك الحرفة مالاً كثيراً، سمح له فيما بعد التفرّغ لعمله الثاني ككبير المؤقِّتين- مثلما كان جدّه- في المسجد الأموي، كما سمح له أيضاً بالقيام برحلاتٍ عدة إلى مصر والعراق وبلاد فارس لتوسيع معرفته في علمَي الرياضيات والفلك.
خلال سفراته الطويلة التقى ابن الشاطر ببعض علماء الفلك، فأخذ منهم كتباً متخصّصة وأزياجاً (جداول فلكية) وآلات فلكية، ثم قام لاحقاً بتطويرها أو اتخاذها كقاعدة أساسية لاختراعاته الشهيرة.
عمله ككبير المؤقِّتين قاده إلى نظريته الجديدة
بعد عودته إلى دمشق من رحلاته العلمية الطويلة، استأنف ابن الشاطر عمله في الجامع الأموي في منصب كبير المؤقِّتين، كما عمل كمؤذن للصلوات؛ مهمتان ساهمتا في تكثيف تأمله وازدياد شغفه بعلم الفلك.
استمرّ على هذا الحال إلى أن نجح في نسف النظرية التي كانت سائدة في ذلك الوقت منذ قرونٍ عدة، والمتمثلة في أنّ الأرض هي مركز الكون وأنّ الشمس والأجرام السماوية تدور من حولها.
أسّس تلك النظرية الخاطئة عالم الفلك الإغريقي كلاوديوس بطليموس، الذي عاش في القرن الثاني، وكان يستند إليها معظم علماء الفلك الذين عاصروه والذين جاءوا من بعده؛ قبل أن يكتشف ابن الشاطر "لامركزية الأرض"، وأنّ الأرض- مثلها مثل كل الكواكب- تدور حول الشمس، التي تُعتبر هي مركز الكون.
وثّق ابن الشاطر نظريته الجديدة وثورته في علم الفلك بكتابه "نهاية السؤال في تصحيح الأصول"، قام من خلالها بتصحيح نظرية بطليموس، حيث كتب: "إذا كانت الأجرام السماوية تسير من الشرق إلى الغرب، فالشمس أحد هذه الكواكب تسير، ولكن لماذا يتغير طلوعها وغروبها؟ وأشد من ذلك أن هناك كواكب تختفي وتظهر سموها الكواكب المتحيرة. لذا الأرض والكواكب المتحيرة تدور حول الشمس بانتظام، والقمر يدور حول الأرض".
وأوضح ابن الشاطر في الكتاب ذاته: "غرضنا أن نورد في هذه المقالة هيئة أفلاك الكواكب على الوجه الذي ابتكرناه، وهو السالم من الشكوك، الموافق للأرصاد الصحيحة".
وعلى الرغم من تصحيح ابن الشاطر لنظرية بطليموس حول مركزية الأرض، إلاّ أنّ الغرب ينسب ذلك التصحيح للبولندي ميكواي كوبيرنيك (ويسميه البعض كوبرنيكوس) الذي عاش في عصر النهضة الأوروبية، صاحب الكتاب الشهير باللغة اللاتينية والمترجم للغة الإنجليزية تحت عنوان On the Revolutions of the Heavenly Spheres.
وقد ألف هذا الكتاب قبل أشهر قليلة من وفاته في سنة 1543، وأحدث من خلاله ثورة في علم الفلك الحديث وفقاً للأوروبيين.
وذكر كوبرنيك في كتابه أن الرياضيات هي من يجب أن تحكم طريقة فهمنا للكون، وليس الفيزياء، وافترض أن الكون مؤلف من 8 مجالات: المجال الخارجي مكونٌ من نجومٍ ثابتةٍ لا تتحرك، والشمس ثابتةٌ في مركز الكون والكواكب تدور حولها، كلّ منها في مداره الخاص، أمّا القمر فهو يدور حول الأرض في مجاله الخاص أيضاً، كما وضّح أن حركة النجوم في السماء والتي يُمكن مُلاحظتها ناتجةٌ عن دوران الأرض حول محورها.
تطابق أعمال كوبيرنيك مع ابن الشاطر
وفقاً لموقع Sarrazins الفرنسي، فإنّ الأرقام الموجودة في كتاب كوبيرنيك مطابقة بالفعل لتلك الموجودة في كتاب ابن الشاطر، كما أنّ المنطق الرياضي هو نفسه، وهندسة الكون (أي الخريطة) هي نفسها أيضاً، وأن الاختلاف الوحيد كان في مكان تواجد الأرض.
وأشار الموقع الفرنسي، المهتم بتاريخ الحضارة العربية الإسلامية، إلى أنه- وعلى الرغم من عدم وجود دليل يثبت انتقال تلك المعارف بين الرجلين- فإنّ تشابه كتابي العالمَين الفلكيَّين، قد يكون نتيجة نقل كوبيرنيك لما جاء في كتاب ابن الشاطر، بعدما عاش لفترة في إيطاليا خلال عصر النهضة الأوروبية، المعروف بترجمة الكثير من أعمال العلماء المسلمين والعرب.
ومن جهته، ألمح المستشرق البريطاني ومؤرخ علم الفلك، دافيد كينغ، في أن يكون كوبرنيك قد "سرق" نظرية ابن الشاطر، بحيث كتب كينغ سنة 2008 مقالاً عن ابن الشاطر بموسوعة Encyclopaedia of the History of Science, Technology, and Medicine in Non-Western Cultures، قال فيه "لقد عُثر في بولندا موطن كوبيرنيك على مخطوطات عربية عام 1937، وثبت أن كوبيرنيك كان يأخذ عنها، ويدّعي لنفسه ما يأخذ".
وتابع كينغ: "ولقد ثبت منذ عام 1950 أن نظريات كوبيرنيك في الفلك، هي في أصلها مأخوذة عن ابن الشاطر الفلكي العربي المشهور، وادّعاها كوبيرنيك لنفسه. وبذلك يكون ابن الشاطر قد سبق كوبيرنيك، الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي، بوضع نظريته عن حركة الكواكب، ودورانها حول الشمس، أو ما يسمى الآن بالنظام الشمسي".
واعتماداً على نظريته الجديدة في علم الفلك، نجح ابن الشاطر في اختراع عدة آلات كانت تبدو عجيبة في العصر الذي عاش فيه. فقد ابتكر في العام 1371 ساعات متساوية الطول لحساب الوقت طوال العام، ولم تظهر مثل هذه الساعات في العالم الغربي حتى عام 1446 على أقلّ تقدير.
تخصص في اختراع الساعات وآلات التوقيت
ابتكر ابن الشاطر مجموعة من الآلات امتازت بسهولة التصميم وتلافي التعقيدات التي وُجدت في الآلات السابقة. فقد صنع آلة تسمى "مُوقّت الصلاة"، وتُعرف أيضاً باسم "البسيط" أو "المزولة الشمسية"، يُقاس بها الوقت خلال ساعات النهار بالاستناد إلى ظّل الشمس.
ولم يكن هذا الجهاز يضبط الوقت إلّا عند السادسة مساء والسادسة صباحاً فقط، لأنه يعتمد على الشمس وزاوية انحرافها عن الأفق، أي أن مبدأ الجهاز يعتمد على الزوايا عوضاً عن الساعة والدقائق والثواني.
وقام ابن الشاطر بوضع تلك الآلة على منارة العروس في باحة المسجد الأموي الشمالي، ونقشَ عليها دوائر البروج الاثنتي عشرة. يتوسط اللوح مؤشر نحاسي لمعرفة مواقيت الصلاة في الفصول الأربعة، وقد ثبّت مؤشر بشكلٍ عمودي على اللوحة.
3) Drawing on the observation that the distance to the Moon did not change as drastically as required by Ptolemy's lunar model, Ibn al-Shatir produced the first accurate lunar model which matched physical observations…3/3 pic.twitter.com/hpf7YhyyT8
— Islamic Scientific Heritage (@IslamicSH_) December 4, 2020
ووفقاً لموقع "الجزيرة الوثائقية"، فإنّ ابن الشاطر كتب في إحدى مخطوطاته عن هذه الآلة قائلاً: "سألت الله العظيم أن يلهمني ابتكار أصول تفي بالمقصود، فوفقني الله تعالى لوضع جامعة الحركات الطولية والعرضية، وقد أوردتها في كتابي (تعليق الأرصاد) ولخّصتها في كتابي المسمى (نهاية السول في تصحيح الأصول)".
واخترع ابن الشاطر أيضاً، جهازاً سماه "الآلة الجامعة"، وهو جهاز لتحديد الوقت يجمع ما تقوم به الآلات الثلاث التي كانت شهيرة في عصره وهي: المزولة والإسطرلاب والساعة الشمسية. وقد فسّر كيفية عمل آلته الجديدة في مخطوطة سماها "المختصر في الثمار البالغة في قطوف الآلة الجامعة".
خريطة جديدة للسماء بطلب من الخليفة العثماني مراد الأول
من أهم إنجازات ابن الشاطر تأليفه لكتاب "الزيج الجديد"، بطلب من الخليفة العثماني مراد الأول، الذي حكم الشام ما بين عامي 761 و791 هجري.
والزيج هي كلمة من أصلٍ فارسي تعني الجداول السلطانية، وكانت توضع في محطة مراقبة النجوم، وقد كان الزيج بمثابة خريطة السماء يعرف من خلالها الفلكيون مواقع النجوم والكواكب والأجرام السماوية.
وقد ضمّن ابن الشاطر في "الزيج الجديد" نظرياته الفلكية الجديدة، ومنها قياسه زاوية انحراف دائرة البروج (وهي خط مسار الشمس والقمر والكواكب السيارة) وتوصله إلى نتيجة غاية في الدقة.
وعن تلك النتيجة الدقيقة، كتب المؤرخ العلمي الأمريكي من أصل بلجيكي جورج سارتون في أحد كتبه بحسب موسوعة "عريق" العربية: "إن ابن الشاطر عالم فائق في ذكائه، فقد درس حركة الأجرام السماوية بكل دقة، وأثبت أن زاوية انحراف دائرة البروج تساوي 23 درجة و31 دقيقة سنة 1365؛ علماً بأن القيمة المضبوطة التي توصل إليها علماء القرن العشرين، بواسطة الآلات الحاسبة، هي 23 درجة و31 دقيقة 19.8 ثانية".
وإذا كانت بعض اختراعات ابن الشاطر، المتواجدة بالجامع الأموي في دمشق، لا تزال شاهدة على عبقريته الفذة، فإنّ معظم النصوص الأصلية لكتبه ومخطوطاته قد اختفت من الوجود.