بجوار مقبرة عائلة الحاج سعيد محمد ضمن مدافن الإمام الشافعي، وقف المشيعون لحفيده محمد علي سعيد، وهم يتابعون في حزن مراسم الدفن التي يقوم بها التربي ومساعدوه.
كانت أمنية، ابنة الرجل، تقف لتعاين عملية دفن والدها وهي تتمتم: "سامحني يا بابا مضطرة لدفنك هنا، وهذا ليس مكان قبرك الدائم، أنا منتظرة قرار الدولة بتنفيذ نقل مدافن العائلة".
حالة الحيرة أصابت أسرة المتوفى محمد علي، تعكس حال مدافن منطقة الإمام الشافعي شرق العاصمة المصرية القاهرة، والقريبة من ميدان السيدة زينب، وذلك في ظل قرار إزالة المقابر بتلك المنطقة ضمن مخطط مشروع القاهرة التاريخية".
وتعرضت حقوق الأموات في مدافن الشافعي إلى النهب بسبب مشروع سياحي عملاق من المنتظر أن يضخ مليارات الدولارات من مساهمات دولية، منها تمويل جماعة البهرة العالمية، والمنح المقدمة من اليونيسكو والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي حديثها مع "عربي بوست"، تقول أمنية: "نحن نعلم أن المقبرة هي ضمن المقابر التي ستتم إزالتها، ولكن الدور لم يأتِ عليها بعد، ومن المتوقع أن يُنقل رُفات أهلي إلى أحد مدافن مدن السادات أو أكتوبر أو الأسمرات".
وأضافت المتحدثة: "والدي تُوفي قبل التنفيذ، ولا أعلم كيف سأقوم بنقله إذا لم يمرّ 3 أشهر، كما سمعت من العلماء تحذيراً من فتح قبر الميت قبل تلك المدة، ولكن الأمر بيد الله".
نبش القبور
وخلال جولة "عربي بوست" لميدان السيدة زينب، ومع تحرك سيارة الأجرة المتوجهة إلى مقام الإمام الشافعي، كان ملاحظاً ركام من الحجارة بمقابر الإمام الشافعي الشهيرة.
وبدأت السلطات المصرية في تنفيذ قرار هدم الكثير من القبور استعداداً لتشييد محور صلاح سالم البديل، وبحسب ما وثقته شهادات سكان المنطقة، فإنه من المنتظر أن يتم إخلاء الساحة بالكامل من منطقة السيدة زينب، وصولاً لسفح جبل المقطم.
وحسب ما علم "عربي بوست" فإن جبل المقطم لا يضم سوى قبور المشاهير من الأموات، سواء رفات الصحابة والتابعين، أو قبور الملوك والسلاطين من حكام مصر عبر تاريخها الإسلامي.
وفي حديثه مع "عربي بوست"، يقول خالد سيد: "في البداية الحكومة أخطرت أصحاب المقابر والأحواش، وأمهلتهم مدة شهر من أجل نقل رفات ذويهم إلى مقابر السادات أو أكتوبر أو الأسمرات".
وأضاف المتحدث أن وزارة الصحة سلمتهم تصريح نقل مسجلاً سلفاً إلى المقابر الجديدة، فبدأت الأهالي في جمع العظام من داخل القبر ووضعه في أكياس مخصصة في سيارات إسعاف مجمعة لكل منطقة.
وأما بخصوص القبور التي لم يحضر أصحابها، وهي كثيرة حسب متحدث "عربي بوست"، فتكفلت بها جهات مسؤولة عن الهدم، إذ قامت بنبش القبور ونقل الرفات بمعرفتها، وتلك كانت نسبة كبيرة.
على خطى خان الخليلي
وليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها نبش القبور في مصر، فقبل 642 سنة تم هدم مقبرة "تربة الزعفران" الخاصة بالخليفة المعز لدين الله الفاطمي، والتي كانت تقع فيها قبور الخلفاء الفاطميين من طرف الأمير جهاركس الخليلي، وأقام عليها حي خان الخليلي المعروف إلى الآن.
وعندما أراد الأمير جهاركس الخليلي أن يبني لنفسه خاناً كبيراً، تمارس فيه شتى أنواع التجارة، وبعد بحثه عن موضع مناسب، رأى أن يشيد الخان على موضع قريب من مسجد السلطان الظاهر برقوق بالقرب من ميدان "بين القصرين" بشارع المعز.
ولم يكن هناك شيء ليعيق الخليلي عن قراره، سوى أن الأرض التي اختارها كانت مقبرة للخلفاء الفاطميين، وهو ما يستدعي نبش قبورهم للبدء في البناء، وهو قرار لم يكن من السهل اتخاذه دون مسوغ شرعي.
وحصل الأمير جهاركس على فتوى من الشيخ شمس الدين محمد القليجي، فقد قام بنبش القبور واستخراج رفات عشرات الرجال والنساء، ووضعها العمال على ظهر الحمير، وألقى بها في "كيمان البرقية"، وهو مقلب قمامة ضخم موضعه الحالي هو حديقة الأزهر.
تفاصيل المشروع
أمر وزير السياحة والآثار، أحمد عيسى، بتشكيل لجنة علمية أثرية فنية، برئاسة الدكتور جمال عبد الرحيم، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، لإعداد دراسة كاملة حول مقابر الصحابة وآل البيت والصالحين بسفح جبل المقطم.
وبحسب الدكتور جمال عبد الرحيم، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، فالمشروع يركز بشكل أساسي على المنطقة الموجودة أسفل تلال جبل المقطم، والمدفون فيها مجموعة من الصحابة وآل البيت والصالحين.
ومن أبرز ما تضمه هذه المنطقة ضريح الإمام الشافعي، وقبر عمرو بن العاص، وعبد الله بن الحارث، وأبو بصرة الغفاري، وعقبة بن عامر، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، وقبر السيدة نفيسة، والشريفة فاطمة، والشريف الهاشمي، والأشراف من آل طباطبا، وذي النون المصري، وابن الحسن الديبوري، وعمر بن الفارض، وجامع ومقام الإمام الليث.
وبحسب المخطط فالمنطقة تضم نوعين من المزارات، أولها المقابر والقباب الأثرية التي دُفن فيها الصحابة والصالحون بالفعل، ثم ما يسمى بـ"مشاهد الرؤيا"، والتي لا تضم جثامين أو رفات، مثل قبة عاتكة والجعفري، وقبة السيدة رقية.
والهدف من عمليات الهدم هو تسهيل وصول الزائرين للمزارات الأثرية الموجودة بتلك المنطقة، سواء من آل البيت أو الصحابة أو الصالحين، وتم وضع تصور كامل لتطوير وترميم مقابر الصحابة وآل البيت والصالحين بسفح جبل المقطم، مع خلق الساحات والطرق للزائرين من مختلف بقاع العالم.
العشوائية تنهش جسد التاريخ
ومن الوهلة الأولى عند دخولك منطقة مقام الإمام الشافعي وحوش الباشا، والذي يضم مقابر أسرة محمد علي الملكية، وآخرين من سلالة البكوات والباشاوات والأمراء تلاحظ كيف سيطرت العشوائية على المنطقة.
فالمباني غير المرخصة التي بنيت بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني دون تراخيص، أصبحت سرطان تنهش من جسد التاريخ بتلك المنطقة، وزاد من كارثة تلك العشوائية الأسواق الشعبية ومحال تنظيف الدواجن بجوار سور مسجد الإمام الشافعي.
وتروي أم علاء التي تعمل في تنظيف الدواجن أنها تعيش من هذه المهنة منذ نحو 15 عاماً، بعد أن ورثتها عن أمها، مشيرة إلى أن مكان عملها بالملاصقة بأسوار مسجد الإمام الشافعي.
وتوضح أم علاء أن المنظر العام للسوق غير حضاري، لكنها تقول في نفس الوقت: "أين أعمل وفي أي مكان؟ وأنتظر أن توفر لي الدولة محلاً تمارس فيه مهنتها التي توارثتها".
وفي جولة "عربي بوست" كان من الصعب الوصول إلى مكان المسجد والضريح صباح يوم الجمعة، حيث أصبحت الشوارع مليئة بالباعة الجائلين، ومركبات "التوك توك" الوحيدة القادرة على اختراق تلك العشوائية كوسيلة نقل.
واضطر كافة الزوار، والذين كانوا من جنسيات أجنبية مختلفة، منهم الإندونيسيون والأتراك ومعهم المصريون، أن يسيروا مسافة طويلة على أقدامهم.
وداخل ساحة المسجد لم تترك العشوائية تلك المساحة، حيث افترش عدد من الباعة الجائلين داخل الساحة، فيما اصطف المئات من الفقراء للحصول على طبق "الفول النابت" وعصير "التمر المجاني".
هدم المنازل مسألة وقت
تعمل السلطات المصرية تدريجياً على إخلاء المناطق السكانية العشوائية المجاورة لمسجد وقبر الإمام الشافعي، وحسب ما رصد "عربي بوست" هناك علامات حمراء تحدد المنازل التي صدر قرار بهدمها، ومعظم تلك المباني هي مبانٍ قديمة وخالية.
وحسب أحد رجال الأمن، والذي يعمل ضمن فرق تأمين المنطقة منذ حوالي 10 سنوات فإن هناك بالفعل مخططاً لنقل سكان المنطقة كما حدث مع الباقي، وسيتم نقلهم إلى حي الأسمرات.
في المقابل مازالت هناك أسر متمسكة بالعيش في هذه المنطقة كحال عم سيد العامل البسيط في حي الإمام الشافعي الذي قال لـ"عربي بوست" إنه لن يغادر الحي الذي عاش فيه حوالي 70 سنة.
وقال: "أنا اعتدت على كسب قوت يومي من هذا الحي، وإذا انتقلت إلى قصر في حي الأسمرات كما يقولون، فكيف أعيش هناك؟ وهل أتسول في هذا الحي الجديد؟".
الأموات درجات
ولكن الغريب في هذا المشروع، والذي أطلق عليه البعض "البقيع المصري"، أنه قائم على جعله مزاراً سياحياً لزيادة قبور شخصيات شهيرة عبر التاريخ، ولذلك كانت عملية هدم ونبش القبور انتقائية، فالأموات درجات، وليس كل قبر قرب محور صلاح سالم المنتظر تشييده معرضاً للهدم.
وفي حديثه مع "عربي بوست"، قال حارس أمن إن مقابر أسرة محمد علي، يتم تطويرها منذ بداية الشهر الجاري، ولم توضع ضمن خريطة خطة الهدم، حيث تم اجتناب القرب منها سلفاً.
وداخل حوش الباشا كما يطلق عليه نسبة إلى محمد علي باشا والي مصر، يتواجد حارسان من حي المحافظة يحرسان مواد البناء والحجارة الجديدة المعدة لتطوير هذا المكان الذي يضم أبناء الباشا، وعلى بعد أمتار تتراكم الحجارة المتبقية من عمليات الهدم التي طالبت مئات المقابر.
ويبدو أن الجميع يستند إلى قاعدة شرعية واحدة عن نقل رفات الموتى من أجل تشييد الطرق والمصلحة العامة، ويقول وكيل المعاهد الأزهرية في مصر الدكتور أحمد عبد العظيم: "لا حرج في ذلك مادام في مصلحة الناس، بشرط أن تكون الجثث متحللة، وليس ذلك قبل 3 أشهر على الأقل".
وأضاف عبد العظيم في تصريح لـ"عربي بوست" إن "المقابر شأنها شأن المساجد، فإذا احتاج الطريق مكان المسجد يتم هدمه ويبنى في مكان آخر".
ودعا عبد العظيم أصحاب المقابر الذين جاءهم إعلان هدم، إلى عدم دفن موتاهم حفاظاً على حرمة كشف أجسادهم خلال فترة "العفونة"، مشيراً إلى أن الإنذار الرسمي أعفى المسؤولين من ذنب هذه الجثث.
هدم مقابر المشاهير غير الأثرية
ورغم بعض السلبيات في التعامل مع تداعيات المشروع، إلا أنه يحظى بأهمية تاريخية، ولكن عالم الآثار الإسلامية حجاجي إبراهيم أشار إلى أن الإشكالية كانت في بعض المقابر التاريخية الخاصة بالصحابة.
فأزمة هدم مقابر الصحابة تثير جدلاً كبيراً، ولا يعرف الكثير من الناس أماكنها، ويقول: "للأسف الأزمة تكمن في أنها ليست مسجلة في وزارة الآثار كموقع أثري، وبالتالي فهدمها أصبح جائزاً، لكنه في الوقت نفسه أثار غضب الكثير من أسر هذه المقابر".
ولكن حجاجي في حديثه مع "عربي بوست" أشاد بالمشروع بشكل عام، وقال: "تجميل المناطق المحيطة بالمساجد التاريخية عبر مشروع "القاهرة التاريخية" يعزز من مستوى السياحة في مصر، حيث إن تلك المناطق تعد مزاراً تاريخياً لجميع السياح خاصة من البلاد الإسلامية".
والدليل حجم الزيارات الآتية من كافة دول العالم لتلك المناطق، رغم الظروف السيئة المحيطة بتلك الجولة في ظل الأجواء المحيطة بتلك الأماكن بوضعها السابق.
المناطق التي يشملها المشروع
الواقع الحالي لمشروع "القاهرة التاريخية" يشمل تطوير عدة أماكن في ذات الوقت، وربطها مع بعضها، حيث يتم هدم المنازل العشوائية المحيطة بالمساجد القديمة، وبالفعل نفذت عمليات تطوير في السيدة زينب وعين الصيرة.
ويضم مشروع "القاهرة التاريخية" المناطق التي تعاقبت عليها الدول المختلفة، في مناطق الفسطاط والقاهرة الأيوبية والمملوكية والفاطمية والخديوية ومنطقة المقابر.
يقول المهندس محمد الخطيب، استشاري مشروع إحياء القاهرة التاريخية، إنه تم البدء بالمعالم الرئيسية، والتعامل مع مناطق محددة، وهي 5 مناطق رئيسية، تربط بينها مسارات حركة معروفة مثل شارع الدرب الأحمر والمعز وتمثل علامات في القاهرة التاريخية.
ويوضح الخطيب، أن المناطق الخمسة التي نعمل عليها الآن في مشروع إحياء القاهرة التاريخية، هي البوابة الشمالية (باب الفتوح)، والبوابة الجنوبية التي تضم باب زويلة وحارة الروم، والمنطقة بجوار القلعة (السيدة عائشة والإمام الشافعي)، ومنطقة الحسين، وما حولها، وهي 5 مناطق تمثل محور القاهرة التاريخية وارتكازها.
وبحسب المخطط المستهدف، فإن المشروع يحوّل شوارع القاهرة التاريخية إلى متحف مفتوح للسياحة، ويحافظ على المباني من السقوط، وبالتزامن مع أعمال ترميم الواجهات تتم إعادة استغلال الخرابات بعد إخلائها من المخلفات.
كذلك إعادة بناء المباني الآيلة للسقوط بنفس الطراز المعماري للمنطقة، بعد تعويض السكان حسب سعر المتر في المنطقة، كما تتم إقامة عدد من المشروعات التعليمية، والثقافية، إلى جانب إنشاء فنادق بالخرابات القديمة، وسوق تجاري، ومواقف للسيارات وجراج ميكانيكي.