مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لأكثر من 100 يوم متواصلة من القصف العنيف والاستهداف اليومي للمدنيين العزل، بلغت أعداد الضحايا أرقاماً غير مسبوقة، متجاوزة 24 ألف شهيد، فيما وصفته الأمم المتحدة بما يرقى لجريمة "الإبادة الجماعية".
ومع ذلك، قد يجد بعض المتابعين للمشهد منذ اليوم الأول أنفسهم وهم يصبحون أقل تأثراً بشكل تدريجي بمجريات الأحداث، وذلك على الرغم من المجازر اليومية والكوارث الإنسانية التي يشهدها القطاع.
الأمر الذي قد يعتبره البعض "مشكلة نفسية" أو "تبلُّداً" هو في الواقع رد فعل نفسي طبيعي، عندما يشهد الإنسان حالات قصوى من البشائع والجرائم غير المحتملة.. فما هو سبب رد فعل "الاعتياد" تجاه المجازر واستمرار تساقط الضحايا، وهل يعني مشكلة أخلاقية وإنسانية عند صاحبه فعلاً؟
ردة فعل "الاعتياد" مهما بلغت بشاعة الأحداث
الخوف هو شكل خالص من التوتر، وبالنسبة للشعور الذي يتشارك فيه الإنسان مع الحيوانات على حدٍّ سواء، بمحاولة تجنب هذه المشاعر قدر الإمكان.
ومع ذلك فإن الخوف هو مفتاح البقاء. عندما ندرك أننا في خطر شديد، يطلق الدماغ سلسلة من الإنذارات الجسدية. وتشحذ حواسنا قدرتها لاستيعاب المعلومات المتعلقة بالتهديدات المحتملة، ويندفع الدم إلى عضلاتنا، ويطلق الجسم مواد كيميائية تكبح الألم.
في هذه المرحلة، تكون جميع الحيوانات والبشر جاهزين للركض للاحتماء أو الوقوف والقتال للدفاع عن النفس. لكن مع استمرار استثارة ردة الفعل الشديدة تلك، سيحدث أمران لا ثالث لهما، الخوف المستمر بصورة مرضية، والانخراط في حالة مستمرة من ردة فعل "الهروب أو القتال"، وهو ما يعرف باضطرابات القلق المفرط والصدمات النفسية والعقلية المختلفة، أو أن يطور الإنسان ردة فعل "اللا مبالاة والاعتياد".
وفيما يتعلق بالحروب، يمكن أن تعزى فكرة أن الأفراد أو المجتمعات "تعتاد على الحرب" أو "المجازر" والجرائم الصادمة إلى مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية والتاريخية.
ولكن من المهم أولاً أن نلاحظ أنه ليس الجميع معتاداً على الحرب، والعديد من الناس يعارضونها بشدة ويتأثرون بشكل حاد عند متابعة تداعياتها عبر وسائل الإعلام المختلفة.
ومع ذلك، بالنسبة لأولئك الذين يختبرون الحرب أو يشهدونها بانتظام، على سبيل المثال الشعوب العربية والمواطن الفلسطيني، فقد تساهم عدة عوامل في الشعور بالتطبيع أو الاعتياد، وحتى التجاوز عند البعض، ويرجع ذلك لما يلي:
1- آلية التكيف النفسي:
يتمتع البشر بقدرة مذهلة على التكيف النفسي مع البيئة المحيطة بهم، حتى في أصعب الظروف وأكثرها بشاعة.
لذلك في المناطق التي مزقتها الحروب، قد يطور الناس آليات التكيف لكي يتمكنوا من المضي قدماً في حياتهم اليومية وسط الصراع، مما يؤدي إلى شكل من أشكال التطبيع والاعتياد، وحتى التبلُّد والخدر.
2- غريزة البقاء:
في خضم الحرب، يصبح البقاء على قيد الحياة غريزة أساسية، والدافع الإنساني الأوحد في تسيير كل الأفعال والأمور. وبالتالي قد يركز الناس على تلبية الاحتياجات الأساسية، مثل العثور على الغذاء والمأوى والسلامة، والتي يمكن أن تلقي بظلالها على السياق الأوسع للنزاع، فيتجاوزون بشكل أسرع فكرة الموت أو التهجير أو التعامل مع الجرائم الأخرى.
لذلك يمكن أن تؤدي هذه العقلية التي تركز على البقاء إلى الشعور بالقبول أو الاستسلام للصراع المستمر.
3- تراجع مستوى الحساسية النفسية بسبب التعرّض المستمر:
يمكن أن يؤدي التعرض للعنف والصدمات على مدى فترة طويلة إلى إزالة الحساسية تجاه تلك الجرائم والكوارث الإنسانية، حيث يصبح الأفراد أقل استجابة عاطفية لأهوال الحرب.
وقد ينجم فقدان الحساسية هذا عن الحاجة إلى حماية السلامة العقلية والعاطفية للفرد في مواجهة الشدائد المستمرة؛ لذلك تتراجع حدة الصدمة والتأثُّر.
4- العوامل الثقافية والاجتماعية:
في بعض المجتمعات، قد يساهم تاريخ الصراع المستمر في المنطقة في تطبيع مفهوم الحرب ومواجهة النزاعات المسلحة الخطيرة، ويمكن للمواقف الثقافية والتقاليد والتجارب التاريخية أن تشكل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الصراع ويستجيبون له.
بالإضافة إلى ذلك، قد تظهر هياكل اجتماعية تعتمد على حالة الحرب أو تديمها. على سبيل المثال، التجار وسماسرة الأسلحة وغيرهم.
5- التلاعب السياسي والتعتيم المتعمّد:
قد يستخدم القادة السياسيون الدعاية ووسائل الإعلام المختلفة في التلاعب بوعي الجماهير لتشكيل التصورات العامة للحرب، وتأجيج أو تمييع نظرتهم لتداعيات الأحداث في مناطق الصراع والكوارث الإنسانية.
ومن خلال التحكم في المعلومات والروايات وطريقة أو مستوى عرض المعلومات المتاحة، يمكن لمن هم في السلطة التأثير على كيفية إدراك الناس للصراعات المستمرة والتفاعل معها، مما قد يعزز الشعور بالقبول أو التبرير.
6- المصالح الاقتصادية:
يمكن ربط الحرب بالمصالح الاقتصادية بشكل مباشر، وعلى مر التاريخ القديم والحديث. في بعض الحالات، قد تصبح الحرب متشابكة ومرتبطة تماماً مع الاستقرار الاقتصادي والرخاء المادي لمجموعات معينة، ما يؤدي إلى مصلحة راسخة في إدامة الصراع، وهي بدورها العوامل التي تقلل من تأثير واستجابة الأشخاص لأعداد الضحايا في مناطق النزاع.
وختاماً، من المهم أن ندرك أنه في حين أن بعض الأفراد والمجتمعات قد يبدو أنهم "اعتادوا على الحرب"، إلا أن هناك أيضاً الكثير ممن يعملون بنشاط من أجل السلام والمصالحة وحل النزاعات. العوامل المذكورة أعلاه معقدة ومترابطة، ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع غالباً ما تنطوي على نهج متعدد الأوجه يشمل الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.