بعد أكثر من 3 أشهر على اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية عن ارتفاع حصيلة الضحايا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، إلى 24 ألفاً و100 شهيد حتى الآن، ويأتي هذا العدد إضافة إلى أكثر من 60 ألف جريح.
وأشارت وزارة الصحة الفلسطينية، في بيان رسمي صادر عنها يوم الإثنين 15 يناير/كانون الثاني 2024، إلى أن العديد من الضحايا لا يزالون تحت الركام وفي الطرقات، بسبب عدم تمكن طواقم الإسعاف والدفاع المدني من الوصول إليهم واتخاذ الإجراءات اللازمة.
الأعداد المهولة للضحايا قد تسبب أزمة لدى كثير من المتابعين للمشهد الكارثي في القطاع، إذ تتزايد الأرقام بوتيرة سريعة، ما يجعل من الصعب أحياناً استيعاب حجم الضرر والخسائر البشرية، ومن ثم التمكن من التعاطف مع الضحايا والتفاعل بشكل فعّال.
إذ يميل الشخص إلى التأثر، بشكل عميق، عند الاطلاع على مأساة ومعاناة فرد آخر، وربما يهتز لأمر مثل إصابته أو مقتله، بشكل يختلف كلياً عن تفاعله مع تلقي أنباء استشهاد ومقتل العشرات والمئات وحتى الآلاف من الناس.
وهو ما يطرح تساؤلاً مُلحاً وهو: لماذا يتجاهل العالم في كثير من الأحيان الفظائع والمعاناة الجماعية ويمكن أن يتأثر بشكل مضاعف بالمأساة الفردية والقصص الشخصية؟
رد فعل "الخدر النفسي" للوقاية من الصدمات
يرجع سلوك تضاؤل التعاطف مع الضحايا في الكوارث الكبرى بصورة كبيرة إلى رد فعل الإنسان حيال الكوارث بالغة الضخامة، وهي ما يُعرف بحالة "الخدر النفسي"، التي تجعل الشخص يميل إلى تجريد الأرقام والإحصاءات الصادمة من المشاعر، والتعامل معها بصورة مجردة؛ لكي يتمكن من التعايش دون التعرُّض لأزمة نفسية حادة.
والخدر النفسي هو ظاهرة نفسية تجعلنا نشعر باللامبالاة لمعاناة أعداد كبيرة من الناس. ويُعد الاقتباس المنسوب إلى جوزيف ستالين "موت فرد واحد هو مأساة؛ أما موت مليون شخص فهو مجرد إحصائية"، مثالاً على التخدير النفسي.
إذ يهتم معظم الناس ويبذلون جهداً كبيراً لإنقاذ "الشخص" الذي لفتت محنته ومعاناته الشخصية انتباههم. ومع ذلك، فإن هؤلاء الأشخاص الطيبين أنفسهم غالباً ما يصبحون غير مبالين بمحنة "الشخص" إذا كان هذا الشخص مجرد "واحد من بين كثيرين" كجزء من مشكلة أكبر تتضمن العشرات والمئات والآلاف وحتى عشرات الآلاف.
بمعنى آخر، نحن نعلم أن حياة واحدة مهمة جداً، لكن الفرق بين 87 و88 حياة معرضة للخطر يبدو ضئيلاً أو غير محسوس تقريباً.
ما هي أسباب هذا التناقض في التعاطف مع الضحايا؟
يُعد فهم التخدير النفسي هو الخطوة الأولى لمنع هذا التحيز من تثبيط رغبتنا في مساعدة المحتاجين. وإذا كنا نعتقد أن كل حياة إنسانية لها قيمة متساوية، فإن قيمة حماية الأرواح يجب أن تزيد بشكل مستقيم مع زيادة عدد الأرواح المعرضة للخطر.
إذ عندما تهدد خسائر إضافية في الأرواح بانقراض شعب ما، كما في حالة الإبادة الجماعية التي يشهدها قطاع غزة على سبيل المثال، فإن حياة الشخص التالية المعرضة للخطر تكون أكثر قيمة من الحياة التي سبقتها، مما يتسبب في انحناء خط القيمة إلى الأعلى. لكن أفعالنا في مواجهة الفظائع الجماعية لا تتبع أياً من هذه النماذج، وذلك لأن مشاعرنا البديهية- القائمة على التفكير السريع- تتجاوز أحكامنا.
وما تخبرنا به الأبحاث حول الكيفية التي نميل بها فعلياً إلى الشعور بقيمة حماية الأرواح البشرية مع تزايد عدد الأرواح المعرضة للخطر، يُعد أكبر تغيير في القيمة يحدث مع حياة الضحية الأولى، حيث تنتقل فكرة الخسائر البشرية من صفر إلى واحد.
وعلى المستوى العاطفي، نحن نهتم كثيراً بحماية حياة الأفراد. ولكن مع زيادة الأرقام، يبدأ "الخدر النفسي" في إزالة حساسيتنا. ومن ثم فإنه مع تزايد عدد الأرواح المعرضة للخطر، نفقد أحياناً الشعور ونقدّر تلك الأرواح الإضافية بشكل أقل.
وتدريجياً يصبح القتلى والجرحى مجرد إحصائيات، ويبدأ التعاطف مع الضحايا في التلاشي بمجرد أن يرتفع عدد الأشخاص المعرضين للخطر من شخص واحد إلى أكثر من ضحية.
إحصائيات الفظائع الجماعية لا تترك أثراً طويلاً
ويتجلى التركيز غير المتناسب على "قصة واحدة" بوضوح شديد في حالة أزمة اللاجئين السوريين التي تم توثيقها بصورة واسعة على مدى السنوات الأخيرة.
على سبيل المثال، تركّز الاهتمام العالمي والغضب العام على وفاة الطفل الصغير آلان كردي في 2 سبتمبر/أيلول عام 2015 عندما انتشرت صورة جثته التي قذفتها الأمواج على الشاطئ، وذلك على الرغم من سياق المعاناة الهائلة والموت للشعب السوري بعشرات الآلاف خلال العقد الأخير.
وفي حين ارتفعت التبرعات للصليب الأحمر بعد هذه القصص، فإن العالم لم يتصرف كوحدة متضافرة لمواجهة هذه التحديات. وبهذا المعنى، فقد اهتممنا بشكل جماعي، بشدة، بوفاة هذا الشخص الواحد، وهو آلان كردي في حالة القضية السورية، ومقاطع الأطفال الضحايا في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة مثل "يوسف صاحب الشعر الكيرلي" و"روح الروح" وغيرهم، لكن مئات الآلاف من الأشخاص الذين يعانون من هذه المصائر المأساوية نفسها قد لا تترك انطباعاً كبيراً فينا، ولا تدفعنا إلى التحرك.
ومن ثم وعلى الرغم من الحروب والكوارث التي تستلزم من الناس كثيراً من الدعم والتعاطف والمؤازرة، قد يكمن الحل ببساطة في استغلال القصص الفردية والحكايات الشخصية بصورة أساسية، عوضاً عن الإحصاءات الضخمة، لتحريك المشاعر وترك الانطباعات اللازمة التي من شأنها إثارة رد الفعل المناسب القادر على دعم القضايا العادلة ومساعدة المستضعفين في كل مكان.