كانت فلسطين ودولة الاحتلال حاضرتين في الصراعات الموجودة في القرن الأفريقي، بين الصومال وإثيوبيا، في الوقت الذي كانت تتخوف فيه إثيوبيا من الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية واعتبرتها كتهديد مباشر لدولتها الإمبراطورية، حيث نظرت إليهما بنوع من الريبة، باعتبار أن العرب والإسلام بالاضافة إلى مصر تهديد مباشر لبقاء دولتهم، سنجدهم ينقسمون بين دعم طرف دون الآخر.
يرصد التاريخ دعم سلاطين العفر والهرر وبعض قبائل الصومال للجيوش العربية في حرب 1948 بإرسال مواشٍ وأغنام، وهو ما جادت به اليد، في مقابل موقف داعم لتقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة من قبل إثيوبيا، فلم يكن هذا هو مسار الدعم الوحيد، فقد قدمت إثيوبيا يهود الفلاشا وهجرتهم بمساعدة الموساد الإسرائيلي إلى الأراضي المحتلة، في المقابل كانت الصومال تحاول أن تنخرط في البيت العربي والإسلامي بمواقف تاريخية.
من هم الفلاشا؟
الفلاشا هم يهود الحبشة.. من المرجح أنهم من سبايا الاجتياح الحبشي لليمن، لفظ "الفلاشا" في اللغة المحلية يعني "المنفيين"، يظن بعض المؤرخين أنهم من القبائل المفقودة في الشتات "الدياسبورا".
في زمن المملكة الأكسومية التي أسسها في القرن الرابع للميلاد الملك "عيزانا" مورس تمييز شديد تجاه الفلاشا، إلا أنهم لم يجبروا على تغيير دينهم كما سيحدث لاحقاً. فرض اليهود على أنفسهم عزلة استغلها النصارى في معاملتهم كغرباء، كما عملوا في مهن دنيئة وعانوا من تمييز في الملبس.
بدأت مع انهيار مملكة أكسوم ثورة المهمشين من يهود الفلاشا، حيث اجتاحت الملكة اليهودية جوديت بجيوشها أرض أكسوم، وقامت بتخريب البلاد وهدم الكنائس، كما اضطهدت المسيحيين، ويعتقد أنها كانت وثنية وأنها من الأعراق غير السامية المستعبدة.
أسست الملكة لحكم دام ما يقرب من مئتي عام عرف بحكم بالأسرة الزجوية، وتحول أحفادها إلى المسيحية في إطار بسط النفوذ والسيطرة. ثم أجبر آخر ملوك الأسرة الزجوية على التنازل عن العرش على يد إيكونو أملاك.
عودة الصراع الإسلامي الإثيوبي
تحالف حاكم أمهرة إيكونو أملاك مع سلاطنة المسلمين في الصومال، وكان الإسلام انتشر في ساحل القرن الأفريقي، وأسلمت عرقيات مثل الهرر والعفر . شكل إيكونو جيشاً من مئة ألف مسلم، استرد به عرش مملكته.
بعدها انقلب الأمهريون على المسلمين باعتبارهم تهديداً لدينهم، واستمر التنكيل بالمسلمين واضطهادهم، تدخلت الممالك الإسلامية في الصومال، وتحالفت مع يهود الفلاشا بعد محارق وتمييز في حق اليهود كذلك. اجتاح الحاكم الصومالي أحمد بن إبراهيم الغازي أكسوم بالتزامن مع دخول العثمانيين مصر تقريباً، وظلت أكسوم تحت سيطرته إلى أن نجح تحالف مسيحي في طرده.
في صراعهم مع العثمانيين، انحازت الحبشة بعد ذلك إلى البرتغاليين الذين كانت تجمع الأحباش بهم علاقات ودية منذ حقبة محاكم التفتيش في إسبانيا. دعت الحبشة البرتغاليين لدخول حرب بحرية مع الدولة العثمانية في البحر الأحمر، إلا أن الأسطول العثماني استطاع هزيمة الأسطول البرتغالي.
بعد قرون تولى منليك الثاني عام 1889 الذي لعب مع يوحنا دوراً مركزياً في بناء إثيوبيا الحديثة، وفي عهده تفجرت المسألة العرقية والدينية، فخاض حروب إبادة ضد المسلمين وعرقية الأورومو وبعض الأقليات في أوغادين. في هذه الفترة حاولت إيطاليا ضم إثيوبيا بعد احتلالها لجزء من الصومال عام 1896، لكن إيطاليا هزمت على يد إثيوبيا التي حظيت بدعم بريطاني.
ومع صعود نجم الفاشية استطاعت إيطاليا أن تحتل إثيوبيا عام 1936 بسبب خلاف حدث على آبار في إقليم أوغادين. دخل الاحتلال الإيطالي جنوب البلاد التي تعد إحدى نقاط الضعف الطبيعية فيها.
فر الإمبراطور الأخير هيلا سيلاسي إلى بريطانيا، لكنه عاد بعد الحرب العالمية الثانية ليزيح الإمبراطور عمانوئيل ويسترد عرشه. قام سيلاسي بقمع المسلمين في إطار حربه مع ممالكهم في العفر بقيادة علي مرح، وساهم في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية، ولكن المجاعة التي ضربت شرق أفريقيا أطاحت بحكمه.
هيلا سيلاسي: تعاون عسكري
تبنت الأسرة الإمبراطورية في عهد إيكونو أملاك سردية أن الأسرة التي أسسها منليك الأول هو ابن لزواج سليمان عليه السلام من الملكة (ماكيدا) بلقيس، لكن هذه السردية مشتقة من أساطير اليمن عن رحبعام بن سليمان الذي حكم اليمن في عهد بلقيس، وقتل في مواجهته مع الكنعانيين لردتهم بعد وفاة أبيه. أما في غالب السرديات فإن رحبعام خلف والده على مملكة الجنوب في القدس.
بنت إسرائيل علاقتها مع النظام الإثيوبي على هذه الأسطورة. يرى المؤرخ الإسرائيلي حجاي إيرليش "أن إسرائيل تقيم علاقات مع العديد من الدول في أفريقيا، ولكن لا شك أن علاقاتها مع إثيوبيا هي من نوع خاص". ومن المؤشرات على ذلك أن البعثة العسكرية الإسرائيلية في إثيوبيا، والتي بلغ عددها في عام 1966 نحو 100 جندي. كانت في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث الحجم. بالإضافة إلى أن إثيوبيا تلقت أكبر قدر من المساعدات الإسرائيلية العسكرية والمدنية على حد سواء من أي بلد في أفريقيا. كما أن إسرائيل شاركت في وأد إنقلابات على هيلا سيلاسي.
مع أواخر الخمسينيات، بدأت إسرائيل برامج المساعدة الفنية لإثيوبيا التي شملت مشاريع الأشغال الزراعية والطبية والتدريب على الصناعات الخدمية؛ كما قاموا بتنظيم تبادلات لأساتذة الجامعات والطلاب. إن البعثات الإثيوبية كان أغلبها ترسل إلى إسرائيل ومنها تشكلت العديد من نخب الدولة. كان الإسرائيليون مستهلكين لصادرات إثيوبيا من اللحوم، وبعض المواد التجارية.
الأنشطة التجارية وفرت واجهة ملائمة للعمليات الاستخباراتية، وفي هذا السياق، يقول مدير إحدى الشركات الإسرائيلية التي كانت تمارس أعمالاً تجارية في إمبراطورية إثيوبيا، إن "إنكودا" التي تصدر لحوم البقر الإثيوبية كانت محطة للمخابرات الإسرائيلية في أفريقيا، كان لدينا مخبأ ضخم للأسلحة، وكان هناك عندما وصلنا وفد عسكري في إثيوبيا، وكانوا يراسلوننا من خلال جواسيس إسرائيليين في الدول العربية، لقد كنا مجرد غطاء لصفقات الموساد.
كان لدى "شبكة الاستخبارات الإسرائيلية "نظام تبادل أفضل مع الأمن الإثيوبي من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، التي لم تكن مهتمة بما يجري في إثيوبيا وأرسلت القليل من التقارير الإعلامية إلى واشنطن". يقال إن أديس أبابا أصبحت "المركز العصبي" للعمل السياسي الإسرائيلي السري في أماكن أخرى من القارة الأفريقية.
كان لدى إسرائيل عشرة مستشارين أو أكثر لمكافحة التمرد متمركزين في إريتريا. وقاموا بتنظيم وتدريب وإمداد قوات الكوماندوز الإثيوبية وحرس الحدود، الذين بلغ عدد أعضائهم 3200 و1200 على التوالي، في عام 1974. شارك المستشارون الإسرائيليون عندما امتد الصراع الإريتري عبر الحدود إلى السودان.
دعمت مصر الصومال في منطقة غرب الصومال "أوغادين"، أدى هذا القرار إلى التقارب المصري الصومالي، أثار هذا التقارب قلق هيلا سيلاسي وعندما طلبوا المساعدة العسكرية من إسرائيل
عملية موسى: نقل يهود الفلاشا
في الوقت الذي دعت فيه الصومال منظمة الوحدة الأفريقية عام 1967م لأخذ موقف من احتلال الأراضي المصرية والسورية، وقفت إثيوبيا لهذا المقترح، بل قادت إثيوبيا موقفاً معادياً للمحاولات المصرية لتوحيد المواقف والجهود، سيتغير هذا الموقف في حرب 1973م، ستقرر إثيوبيا قطع العلاقات مع إسرائيل، لكن هذا القرار لن يدوم طويلاً؛ إذ ستعود العلاقات مع انقلاب منغستو، وسيدرب الإسرائيليون 400 من الحرس الشخصي له، كما أن إثيوبيا امتنعت عن التصويت لصالح قرار 3379 لعام 1975 الصادر عن الأمم المتحدة، الذي اعتبر الصهيونية حركة عنصرية، والذي ألغي بعد امتناع إسرائيل عن المشاركة في مؤتمر مدريد المفضي إلى أوسلو إلا بعد إلغائه.
بسبب الحرب الصومالية انفتح منغستو على الاتحاد السوفييتي بسبب افتقاره للدعم العسكري ودعم أمريكا والعرب، وعلى رأسهم مصر، للصومال، إذ طلب الدعم من السوفييت وأن يبعث له بجنود كوبيين ومن اليمن الجنوبي ومن ليبيا، ويقرر طرد الخبراء الإسرائيليين عام 1978.
شعرت إثيوبيا بالعزلة من محيطها العربي الذي دعم إريتريا ودعم الصومال، فعاودت العلاقات مع إسرائيل، إذ سمح مناحم بيغن بشحن بعض الأسلحة بقيمة 20 مليون دولار التي سلبتها إسرائيل من منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت إلى نظام منغستو عام 1983، وذلك لكي تسمح إثيوبيا بنقل يهود الفلاشا. وفي عام 1985 عاد الخبراء الإسرائيليون إلى إثيوبيا.
بين 21 نوفمبر 1984 و6 يناير 1985، نقلت عملية "موسى" حوالي 7000 إلى 8000 يهودي إثيوبي من الخرطوم إلى تل أبيب عبر بروكسل، على متن ما لا يقل عن 35 رحلة بوينغ 707. أصبح الجسر الجوي أولوية مهمة؛ حيث كانت إثيوبيا تعاني من المجاعة، وفر حوالي 350 ألف لاجئ إثيوبي إلى السودان. وقد نفذت العملية وكالة المخابرات المركزية والموساد وأمن الدولة السودانية قبيل الإطاحة بالنميري. وافق الرئيس السوداني على التعاون مقابل زيادة المساعدات الأمريكية لبلاده التي عليها ديون تبلغ 9 مليارات دولار.
في البداية، تعرض بعض الفلاشا الذين حاولوا شق طريقهم إلى السودان للضرب والسجن على يد مسؤولين محليين في إثيوبيا، وعندما ظهرت تقارير عن عملية موسى في الصحافة الإسرائيلية والعالمية لاحقاً، ادعت الحكومة الإثيوبية أن الفلاشا اختطفوا من دون إرادتها، وطالبوا بإعادتهم إلى وطنهم.
عملية سليمان: النقل الكبير
مع حلول أوائل عام 1990، قام كل من زعيم الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا أسياس أفورقي، ونظيره في الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي-الجبهة الديمقراطية الشعبية ملس زيناوي، بزيارة واشنطن، والتقيا بمسؤولين أمريكيين. وقتها استقال منغستو الماركسي، وسهلت الوساطة الأمريكية عملية سليمان مباشرة بعد رحيل منغستو إلى زيمبابوي، وبعد ستة أشهر من التخطيط والمفاوضات المتقطعة التي ضمت إسرائيل والولايات المتحدة والجيش الإثيوبي والجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية جرت عملية سليمان.
كان الإسرائيليون قد وظفوا أوري لوبرياني السفير الإسرائيلي السابق لدى إثيوبيا للتفاوض مع منغستو، الذي طلب الأسلحة مراراً وتكراراً؛ تم رفض العرض الإسرائيلي لإنشاء محطات تحلية المياه مقابل حق الفلاشا في المغادرة.
في نهاية المطاف استقر مع تيسفاي جبري كيدان نيابة عن منغستو على 35 مليون دولار أمريكي، بعد أن أرسل الرئيس جورج بوش الأب السيناتور الأمريكي السابق رودي بوشويتز للتعبير عن القلق الأمريكي بشأن سلامة اليهود الإثيوبيين؛ وافقت الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية بقيادة مليس زيناوي على عدم دخول أديس أبابا إلا بعد اكتمال الجسر الجوي.
وفي غضون حوالي ثلاث وثلاثين ساعة في 24-25 مايو 1991، تم نقل حوالي 14500 من الفلاشا جواَ من أديس أبابا إلى تل أبيب على متن 32 طائرة إسرائيلية وطائرة إثيوبية واحدة، من طائرات سي-130 هرقل إلى طائرات بوينغ 707 و747.