فُتحت أبواب السماء للماء والدعاء، بملابسهم التي لا تقيهم البرد ولا الحر، كسنابل خضر يدفعهم الأمل دفعاً، بعنفوان الشباب يزيدهم سوء الموقف إصراراً… سنصلي الجمعة في الوحل واقفين دون أن نسجد على الأرض، حتى لا تغوص أجسادهم والجباه في الطين… قم يا دكتور عبد العزيز فلتخطب بنا الجمعة.
الساعات الأولى على تلة في مرج الزهور كانت عصيبة على المبعدين عن الوطن، ترفض لبنان أن تستقبلهم، وبينهم وبين أرضهم شبر، أسسوا مخيم العودة على أرض المنفى في مرج الزهور. هناك كانت نقطة الإنطلاق واستمرت الحكاية التي كانت لها مقدمات حتى اليوم لأكثر من 31 عاماً.
الشتاء قادم: مقدمات مرج الزهور
بعد تأسيس حماس ارتفعت مشاركة الحركة الإسلامية في فلسطين في عمليات الكفاح المسلح، وخصوصاً أنها تزامنت مع اندلاع الانتفاضة الأولى، وبدأت ترسخ حماس والجهاد الإسلامي من شرعيتهما كالحصن الأخير للكفاح المسلح ضد دولة الاحتلال الصهيوني.
تزامن ذلك مع انهزام فتح وذهابها للتفاوض مع إسرائيل، والتي انتهت بمسار أسلو وتشكيل سلطة التنسيق الأمني، كانت الجبهة الشعبية وبعض الفصائل المنشقة عن فتح هي وحدها من ترفض مسار السلام باعتباره تسليماً وتنازلاً عن حق الشعب الفلسطيني في النضال وأرضه كاملة، وتنازلاً عن حق العودة والتضحية بحقوق فلسطينيي الشتات.. إلا أن التمثيل الواسع داخل فلسطين كان من نصيب فتح، فبالتالي بدا أن المواجهة معها أمر سلبي على العمل الفلسطيني.
في الأثناء كانت حماس والجهاد الإسلامي يشقون الطريق تحت مظلة الحركة الإسلامية، ويوسعون نشاطاتهم، فقد نفذت حماس أول عملية خطف على يد محمد الشراتحة ومحمود المبحوح ومحمد نصار من وحدة 101 وهي متخصصة في أسر الجنود، أسرت الوحدة الرقيب "آفي سابورتس" 17 فبراير/شباط 1988م، وانتهت بمقتل الرقيب ولم تجد إسرائيل جثته إلا بعد 3 أشهر.
أما العملية الثانية فكانت لأسر العريف "إيلان سعدون" بتاريخ 3 مايو/أيار 1989 وانتهت بمقتله أيضاً، ولم تصل إسرائيل لجثته إلا بعد سبعة أعوام. أُسر محمد الشراتحة وألَّف في السجن كتاب "القادم إلى خطفك" وأفرج عنه في صفقة وفاء الأحرار، إذ إن أول فعل مقاوم لـ"حماس" كان أسر جنود ومشهد 7 أكتوبر/تشرين الأول ليس غريباً عليها.
ردت إسرائيل بعد عملية إيلان سعدون باعتقال الشيخ أحمد ياسين، الزعيم التاريخي للحركة، للمرة الثانية بعد أن أفرج عنه عام 1985م في صفقة أسرى للحركة الشعبية، طُلب من الشيخ أحمد ياسين الإفراج عنه مقابل جثمان إيلان، إلا أنه رفض ونقل عنه قوله للضابط: "أنت تعرف مدى قسوة شروط أسري واشتياقي للحرية ولا يوجد أحد في العالم مطلع على الحقيقة مثلك، وتعرف حجم أشواقي إلى أحفادي ومحبتي لهم وحلمي بشم رائحتهم، ولكن الاقتراح بمبادلتي بجثمان مهين ومرفوض".
فجر أسر الشيخ أحمد ياسين الاحتقان؛ إذ جاءت الأخبار عن وضعه الصحي في الصحف، مما رفع من عمليات حماس، فأتت عملية الطعن بالسكاكين لثلاثة مستوطنين على يدي أشرف البعلوجي ومروان الزايغ في انطلاقة حماس الثالثة 14 ديسمبر/كانون الأول 1990.
وفي 4 مايو/أيار 1992م، نفذت مجموعة لكتائب عز الدين القسام، المعروفة بمجموعة الشهداء، عملية ضد موكب قائد شرطة قطاع غزة الجنرال "يوسف آفنيبغد"، مثلت تلك العملية حدثاً فارقاً في تاريخ العمل النضالي، إذ كانت هي التدشين الفعلي للقتال من المسافة صفر، والتي نفذها عماد عقل. وألحق عقل عمليته بعمليتين؛ واحدة في غزة وأخرى في الضفة الأولى قتل فيها ضابط وجنديان على طريق بيت لاهيا الشجاعية، وعملية في مدينة الخليل التي قتل فيها ضابط وأصيب فيها ضابط آخر وجندي في 13 ديسمبر/كانون الأول 1992.
وفي نفس الشهر استشهد عصام عزيز براهمة في بلدة عنزة جنوب جنين، قتل خلالها قائد قوة اقتحام البلدة وجرح أربعة من الجنود، ولم تنتهِ تلك الأحداث حتى عاودت مجموعة لخطف ضابط صف إسرائيلي "نسيم توليدانو" في مدينة اللد، وطلبت الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين وإلا سيقتل الأسير خلال 10 ساعات، لم يستجب رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين فأعدموا الجندي، لتنفجر بعدها الأوضاع.
كانت إسرائيل في الترتيبات النهائية لاتفاق أوسلو، إذ اعترفت بمنظمة التحرير وقتها ودخلت في مفاوضات سرية وعلنية، ولم يكن "رابين" يريد أن يستلم شعلة الكفاح المسلح فصائل أخرى، كما لم يرد أن يفسد محاولة تصفية القضية الفلسطينية شيء، كما كانت إسرائيل تعتقد أن اتفاق السلام هذا قد يكون بمثابة إنهاء لحالة الانتفاضة، فعمدت إلى شن أكبر حملة في الضفة وغزة ضد الحركة الإسلامية بكل أطيافها، في القلب منها حماس وبدرجة أقل الجهاد الإسلامي، فأسرت بين ألف و1500 منتسب إليها يمثلون عمادها التنظيمي، وأخذت قراراً بإبعاد 415 شخصاً منهم إلى لبنان، على رأسهم عبد الفتاح دخان الذي كتب ميثاق الحركة والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل هنية وإسماعيل أبو شنب وحماد الحسنات وعزيز الدويك وبسام جرار وآخرون.
عود أخضر يشتد
الخميس 17 ديسمبر/كانون الأول 1992 نقلت إسرائيل المبعدين في شاحنات يقودها دروز باتجاه لبنان، عبرت الشاحنات الحدود تحت نظر جيش أنطوان لحد المتعاون مع إسرائيل، حتى بلغت قرب الخط الذي يتمترس عنده الجيش اللبناني، رفض الجيش اللبناني إدخال المبعدين طالباً من السائقين العودة، مع عودة الشاحنات الستة أطلق جيش الاحتلال النار عليهم، فأمر سائقو الشاحنات المبعدين بالنزول، حاول المبعدون العودة إلى الديار مرة أخرى، لكن جيش الاحتلال ظل يطلق النيران بغزارة عليهم.
فتراجعوا باتجاه لبنان، ولما أصاب الطلقات التعب ولم تعد تبلغ المدى، عند تلة فيها ماء وشجر، هناك عسكر المدثرون بالعزم، حتى يعودوا للوطن، وأسسوا مخيم "العودة" على تل عرف أنه تابع لقرية "مرج الزهور" التي كانت شاهدة ومشهودة.
بملابسهم التي أسروا بها لم يكن لديهم أي شيء، الجوع والمطر والثلوج وبرد قارس، وعزيمة تدفئ الحشى وتوقد لهيب التحدي والصبر، كانت الفترة الأولى قاسية، لكنهم مذ كانت اللحظة الأولى وهم في الشاحنات كانت الزعامة الدينية من نصيب عبد الفتاح دخان، لكن الممثل الفعلي والمفوض ومندوبهم فكان الدكتور عبد العزيز الرنتيسي مسؤول اللجنة الإعلامية، أما المهندس عزيز الدويك فكان المتحدث باللغة الإنجليزية.
خطب الرنتيسي أول جمعة في العراء، بلا خيام، أو سرابيل تقيهم البرد والمطر، هطلت الأمطار، وتكون الوحل، وصلوا وقوفاً، افترشوا الأرض وتلحفوا السحاب، ساعات ونقلت عنهم الأخبار، جاءهم الصليب الأحمر وطلب منهم أن يكتبوا الرسائل إلى ذويهم، وجاء لهم بخيام بسيطة وبعض المستلزمات والفرش، وتقاطرت الصحافة العالمية واحدة تلو أخرى.
ما إن وصل الخبر إلى رجل الأعمال نزيه البقاعي وهو لبناني من أصل فلسطيني، حتى جهز المؤن من مأكل ومشرب، من صنوف شتى ومن الفاكهة وبعض من الملابس والاحتياجات وذهب بها إلى مرج الزهور، مخيم العودة.
رسخت مرج الزهور صورة حماس والجهاد كحركات مقاومة، وعززت من مكانتهما في حمل لواء الكفاح المسلح، وبدلاً من أن تنجح إسرائيل في تصفية القضية الفلسطينية، كانت حركة الإبعاد هي حركة لو طلبت حماس تطلبها ألف عام لما فعلتها كما فعلت إسرائيل، هكذا تحدث الرنتيسي وغيره من المبعدين عن المحنة التي تحولت إلى منحة.
تفتحت الزهور: المرج جامع وجامعة
رويداً رويداً تصدرت أخبار المبعدين الشاشات والصحف، من حيث لا تدري أتت إسرائيل، بغباء سلط عليها وبإصرار المقاومين، فبعد شهرين فقط من ذلك الحدث ذهب بعض المبعدين إلى الرغبة للانتقال إلى لبنان باعتبارهم قد أدوا الرسالة المطلوبة، فراسل الرنتيسي الجيش اللبناني ألا يدخل أحداً، وخرج القرار بالإجماع وقتها ألا عودة إلا إلى فلسطين، حتى يكون فأل خير "مخيم العودة" أول مخيم يفكك بعودة أهله إلى بلادهم، فتتبعه كل مخيمات الشتات الفلسطيني خارج فلسطين وداخلها، الخيط الذي يكر، والغزل الذي ينقض لثوب النكبة الذي لبسناه.
بدأ المرج أشبه بخلية نحل، عمل تنظيمي على مستوى عالٍ، فأسست جامعة "ابن تيمية" أو جامعة مرج الزهور على يد الدكتور عبد الفتاح العويسي، حيث يشارك كل أستاذ ودكتور ما عنده من علم ليدرس البقية، وقد كان للشيخ جرار وآخرين دور في صياغة أفكار تلك النخب حول العمل الاستراتيجي للقتال ضد إسرائيل "كحرب 2022" التي يعتقد أن طوفان الأقصى جاءت تحقيقاً لتلك النبوءة.
درسوا العلم الشرعي كعلوم القرآن والفقه، وتعلم اللغات، والعلوم السياسية والإدارية والعسكرية، والأخير كان له عظيم الأثر، إذ التفتت إيران أكثر نحو حماس، وبدت راغبة في تقديم بعض من العون في إطار استراتيجيتها في تصدير الثورة، وقد ساهمت في تدريب كوادر، كان على رأسها عز الدين الشيخ خليل وآخرون، إذ تعتبر مرج الزهور هي النواة الأولى للعمل الداعم لحركة المقاومة، والتي ستأخذ منعطفات مع الزمن، بالأخص مع استمرار مفاوضات أوسلو، وهو نفس السبب الذي فتح الباب أمام حماس عند النظام السوري والذي سيفتتح نواة لمكتبها الذي سيصبح من 2001 وحتى 2012 هو المكتب الرئيسي لها في الخارج.
جيل بلغ الثريا: العمل النضالي
أخذت الرسائل السياسية والخطابات منحنى تصاعدياً لصالح حماس على أيدي اللجنة الإعلامية بقيادة عبد العزيز الرنتيسي، في ذلك الوقت كان المبعدون يقومون بدور إغاثي ومجتمعي نشط، فأسسوا وحدة طبية في قرية تل الزهور من 16 طبيباً وأتى اللبنانيون في تلك الأرجاء للعلاج على أيديهم، كما شاركوا في قطف الزيتون والعنب مع أهالي القرية.
تطورت الأدوات الإعلامية ولغة الخطاب، واستغلال سقف الممكن، فنفذوا وقفات احتجاجية ورمزية كجنازة لدفن جثة مجلس الأمن، الذي استصدر قراراً رقم 799 يدين إسرائيل ويطالبها بإعادة المبعدين ورعايتهم. وهو ما قد كان؛ حيث عادوا على دفعات خلال عام، كان آخرها بعد عام بالتمام والكمال 17 ديسمبر/كانون الأول 1993م.
فضل 27 منهم عدم العودة، شكل العائدون والذين ظلوا في الخارج نخبة حماس التي طورت في أساليبها النضالية، ورسخت من صورتها ومكانتها كحركة مقاومة، إذ كان مرج الزهور هو بستانها الأول الذي نبتت فيه بشكل فعلي حتى بلغت الطوفان، فتوفي عبد الفتاح دخان بعده بخمسة أيام 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واغتيل عزام الأقرع مسؤول كتائب عز الدين القسام في الخارج في لبنان برفقة صالح العاروري 2 يناير/كانون الثاني 2024.