أدّى القصف الإسرائيلي المستمرّ على قطاع غزة منذ الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى تدمير ما يفوق المئة معلم أثري وتاريخي، والتي كانت شاهداً على تاريخ المدينة الثقافي والحضاري الممتد طيلة قرون، وفق دراسة حديثة أجرتها مجموعة "التراث من أجل السلام".
ولم تقتصر هذه المعالم التي تعرّضت لأضرار كبيرة على المقدّسات الدينية الإسلامية فحسب؛ بل شملت أيضاً المقدسات المسيحية من صروح معمارية ضاربة في القدم على غرار موقع تلّ أم عامر ومدرسة العائلة المقدسة الأثرية التي تعدّ الأقدم في غزة، وحتى المستشفى المعمداني الذي يمتدّ تاريخه إلى نهاية القرن التاسع عشر لم يسلم من بطش الاحتلال في مجزرة وصفها الناجون بأنها كانت محرقة حقيقية.
في هذه المقالة نطلعكم على بعض المعالم الأثرية المسيحية التي استهدفها الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزة، في إطار خطة ممنهجة للنيل من التراث الفلسطيني، والقضاء على أي رمز ديني وتاريخي يشير لوجوده.
كنيسة القديس بريفاريوس أقدم ثالث كنيسة في العالم
قام الجيش الإسرائيلي باستهداف كنيسة الروم الأرثوذكس، أو كما تعرف أيضاً بكنيسة القديس بريفاريوس التي تقع وسط مدينة غزة بشكل مباشر في 19 أكتوبر/تشرين الأول.
وقالت البطريركية الأرثوذكسية في القدس إن كنيسة للروم الأرثوذكس في قطاع غزة كانت تؤوي مئات النازحين الفلسطينيين تعرضت لقصف جوي إسرائيلي خلال الليل، وقال مسؤولو صحة فلسطينيون إن 16 شخصاً قُتلوا في الهجوم نقلاً عن وكالة رويترز.
كما وصفت بطريركية الروم الأرثوذكس الهجوم الإسرائيلي على كنيسة برفيريوس بـ"جريمة حرب".
وقالت وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية "وفا" إن "طيران الاحتلال قصف كنيسة القديس بريفاريوس في حي الزيتون جنوب غزة، ما أدى إلى أضرار مادية جسيمة لحقت بأجزاء من مبنى الكنيسة، كما تم تدمير مبنى بجوارها".
ونقلت الوكالة عن مصادر محلية أن مبنى مجلس وكلاء الكنيسة، الذي يؤوي عدداً من العائلات الفلسطينية، المسيحية والمسلمة، التي لجأت إلى الكنيسة بحثاً عن "مكان آمن"، قد تدمّر بشكل كامل بسبب القصف، كما ذكر لنا موقع عربي بوست.
ووفق موقع ART NEWS يعود تاريخ تأسيس كنيسة القديس بريفاريوس إلى القرن الخامس، وتم الانتهاء من البناء بهيئته الحالية في القرن الثاني عشر.
تمت تسمية الكنيسة باسم أسقف غزة السابق، القديس بريفاريوس، وتقع الكنيسة فوق المكان الذي يُعتقد أنه توفي فيه عام 420 قبل الميلاد.
ومثل المباني القليلة المتبقية من العصر الصليبي، صُممت كنيسة الروم الأرثوذكس بشكل رائع من الداخل وبنيت بجدران محصنة بشكل كثيف.. ومثلت الكنيسة ملجأ منذ زمن طويل للأقلية المسيحية والمجتمع المسلم في غزة.
فخلال قصف غزة عام 2014، آوت الكنيسة حوالي 1000 مسلم فلسطيني فروا من القذائف الإسرائيلية، بحسب رويترز.
الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في قطاع غزة
تتألف الطائفة الكاثوليكية في قطاع غزة من 133 شخصاً، وكنيسة العائلة المقدسة هي الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في قطاع غزة وكاهنها المسؤول غابرييل رومانيلي.
وبحسب موقع latin patriarchate of jerusalem تضم الكنيسة مدرسة العائلة المقدسة التي تتسع لـ300 طالب والتي طالها القصف، وروضة للأطفال تتسع لـ50 طفلاً، وبيت كاهن الرعية.
هناك أيضاً راهبتان داخل المبنى، يساعدان في أنشطة الرعية، وهما مسؤولان عن دارين للأطفال والمسنين ذوي الإعاقة.
مدرسة العائلة المقدسة التي طالها القصف
تأسست مدرسة العائلة المقدسة في غزة عام 1974 من قِبَل الكنيسة الكاثوليكية. وتعتبر من أفضل المدارس في غزة، حيث توفر مستوى عالياً من التعليم والتبادل الثقافي بطقوس مسيحية، وتقدم تعليمات دينية للأطفال المسيحيين.
المستشفى المعمداني: مجزرة تطهير عرقي في حق المدنيين
مجزرة المستشفى المعمداني أقدم مجازر غزة، وهي مجزرة ارتكبها سلاح الجوّ الإسرائيلي في ساعات الليل الأولى من يوم 17 أكتوبر 2023 على المستشفى الواقع بحي الزيتون جنوب مدينة غزة.
وهي مجزرة تطهير عِرقي ارتكبت على مرأى ومسمع من العالم، بحق المدنيين الذين التجأوا لساحات المشفى هرباً من القصف المتواصل والكثيف الذي طال بيوتهم، كما أضرّ بالشوارع ودور العبادة وحتى المدارس التي التجأوا إليها.
ووفق موقع عربي بوست، يرجع تأسيس المستشفى إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، تحديداً عام 1882، في حي الزيتون بقطاع غزة، أسسته البعثة التبشيرية التابعة لإنجلترا آنذاك، وكان يتبع للكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس.
وقد كان المستشفى الوحيد بالمنطقة ما بين يافا وبورسعيد، وقدَّم الرعاية الصحية لسكان المناطق القريبة من قطاع غزة. وتحيط بالمشفى كنيسة القديس برفيريوس ومسجد الشمعة ومقبرة الشيخ شعبان.
ويذكر أن المشفى تعرَّض عام 1919 عقب الحرب العالمية الأولى، للنهب والسرقة، ما أدى إلى إعادة بنائه وأُعطي اسماً جديداً هو: "المستشفى الأهلي العربي"، وفق ذات المصدر.
وتطوّر المشفى ليصبح، قبل أن يتعرض لقصف الاحتلال، مؤسسةً صحية متكاملة بأقسام مختلفة، وبخدمات متعددة من الرعاية الطبية للمرضى.
الكنيسة البيزنطية.. لوحة الفسيفساء التي دمّرها الاحتلال
تعرّضت الكنيسة البيزنطية الواقعة بمدينة جباليا شمالي قطاع غزة لقصف مستهدف من قِبَل طائرات الاحتلال الإسرائيلي بحسب ما أكدته وزارة السياحة الفلسطينية،كما ذكرت أنّ "مبنى الكنيسة تعرض لأضرار جسيمة نتيجة القصف الإسرائيلي، ما تسبب في تصدعات قد تهدد البنية الأساسية للمكان".
كما ذكرت الوزارة أن القصف الذي طال الكنيسة "قد يهدم جهود الصيانة والترميم الكبيرة التي قامت الوزارة بالإشراف على تنفيذها في عام 2017م".
ويعود تأسيس الكنيسة التي تعدّ من أهم المواقع الأثرية والتراثية المسيحية في قطاع غزة إلى 1600 عام وفق وكالة قدس برس.
تحتوي أرضية الكنيسة البيزنطية على مجموعة من لوحات الفسيفساء، مثل أشجار النخيل والفاكهة.. كما تضم نقوشاً وزخارف مختلفة، منها الحيوانية والهندسية.
ترمز الزخارف الحيوانية للكنيسة "الأسود والغزلان والأسماك البحرية"، وهي تشير إلى الاستقرار والهدوء الذي ساد الحياة المسيحية في قطاع غزة، وفق الوكالة نفسها.
كما تتكون الكنيسة البيزنطية من 3 أروقة؛ الأول، مخصص للقساوسة والرهبان، والثاني رواق الصلاة، والثالث هو رواق التعميد.
وللكنيسة 16 نصاً تأسيسياً باللغة اليونانية القديمة، حيث تعدّ من أكبر النصوص التأسيسية داخل الكنائس.
دير القديس هيلاريون.. أقدم أديرة فلسطين
استناداً إلى موقع ART NEWSPAPER فإن دير القديس هيلاريون هو جزء من تل أم عامر الأثري بمدينة غزة، وهو موقع مدرج على قائمة اليونسكو للتراث المبدئي منذ عام 2012. ويقع في قرية النصيرات الساحلية، على بُعد حوالي 8.5 كيلومتر جنوب القطاع.
ويُعَدّ دير القديس هيلاريون، المعروف باسم تل أم عامر الأثري، أول وأقدم وأكبر الأديرة التي بُنيت في فلسطين، خلال العصر البيزنطي، إذ يرجع تاريخه إلى عام 329، حينما أقام القديس هيلاريون أول صومعة له للتنسك في ذلك المكان.
وتُغطي البقايا الأثرية لدير القديس هيلاريون التي اكتشفتها عام 1997 دائرة الآثار في غزة مساحة تزيد على 14 ألفاً و500 متر مربع، وتمتد الفترة الزمنية التي تنتمي إليها هذه الآثار من القرن الرابع، إلى القرن التاسع الميلادي الممتدة بدورها من الحقبة الرومانية حتى العصر الإسلامي العباسي، والدير كذلك يعتبر الموقع الأقدم على مستوى الأرض المُقدسة في غزة، على اعتبار أن مؤسسه الدير القديس هيلاريون الذي يعتبَر أبا الرهبنة في فلسطين.
ويحتوي الدير على خمس كنائس وحمامات ومجمعات مقدسة وفسيفساء هندسية معقدة وسرداب واسع.
ويذكر مشرف موقع القديس هيلاريون الأثري، محمد عبد الجواد، أن "المكان حتى عام 1993 كان عبارة عن تلة من الرمال، إلى أن اكتُشِفَت الأحجار والآثار خلال مشروع لتقسيم الأراضي الفلسطينية".
ويضيف: "في ذلك الوقت، كان يحكم قطاع غزة الاحتلال الإسرائيلي، وبمجرد معرفته بالمعلومة، حَوّل المكان إلى منطقة عسكرية مُغلقة، وقد عمل بالمكان لمدة عام كامل، كانت تهبط خلاله طائرات المروحية لنهب آثار الموقع وسرقتها".
لا نستطيع أن نختم مقالتنا دون أن نذكّر بأنّ العشرات من هذه المواقع الأثرية المسيحية التي استهدفها الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزة، في حملة تطهير تاريخي وديني مروّعة، تقع في دولة تعتبر مهداً للديانة المسيحية في العالم، بالنظر إلى مواقعها الأثرية، إضافة لاحتوائها على كنيسة المهد، التي وُلد يسوع المسيح فيها في مدينة بيت لحم، وبالتالي لا عجب في أن يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون في غزة في أبهى حُلة لالتقاء الأديان وتكاملها.. هذا سلام يزعج الاحتلال ويقضّ مضجعه؛ إذ إن هؤلاء المسيحيين أيضاً يعتبرون من أصحاب الأرض في مدينة غزة؛ حيث يرجع تاريخ تواجدهم فيها إلى سنة 402 ميلادية، بحسب BBC عربي وبالتالي فوجودهم سابق لمجيء الاحتلال سنة 1948؛ ما يشكّل بالنسبة له سبباً كافياً لاقتلاع تاريخهم من جذوره عبر تدمير مقدساتهم.