يعتقد دائماً أن كون مدينة غزة محاصرة لأكثر من 17 عاماً أنها بعيدة تماماً عن مظاهر الحياة المعروفة، يُظن أنها مدينة مستهلكة وغير منتجة، أو أن بناها التحتية ضعيفة، أو أنها لا تمتلك مقومات النشاط الاقتصادي الحيوي، والواقع هو عكس ذلك تماماً.
قد نفاجأ بالصناعات العسكرية المحلية في غزة، وأنها صنعت فارقاً كبيراً في المعركة مع دولة الاحتلال؛ في ظل الحصار والقلة في المواد الخام وحتى أماكن التصنيع، التضييق الإسرائيلي على الصناعة العسكرية البدائية في غزة يقتضي تضيقاً أوسع وأشمل على الصناعات الأخرى في غزة، ما سبَّب خسائر فادحة بملايين الدولارات، وارتفاع نسبة البطالة في غزة إلى حدود 70% في فئة الشباب عام 2018.
وبالرغم من ذلك التضييق نجد بعض الشركات الغزية تتوسع في أسواق خارجية وتفتح معامل ومصانع لها في دول أخرى، كشركة بدري وهنية والمتخصصة في التعبئة والتغليف للمواد الغذائية كالقهوة والبهارات، والتي افتتحت لها مصنعاً في إسطنبول بتركيا.
شعب يقاوم ظروف الاحتلال
غزة قبل 1967 أشبه بسوق حرة مفتوحة في فترة الإدارة المصرية، ومع أن مصر في عهد عبد الناصر كانت تشدد في سياسات الاستيراد من الخارج لتبنيها سياسة إحلال الواردات إلا أن غزة ظلت بمنأى ذلك، فقد كان القطار الذي يصل من القاهرة إلى العريش ومنها إلى غزة مرات معدودة في السنة يُحمل بالبضائع المستوردة التي كانت تلقى رواجاً في السوق المصرية.
وبعد احتلال القطاع على إثر هزيمة 1967، ورغبة إسرائيل في دمج المناطق الجديدة المحتلة في اقتصادها بدأت تظهر بوادر النشاط الإنتاجي الأهلي، عندما قامت أسر بإنشاء معامل لصناعة المواد الغذائية والاستهلاكية في البيوت، ويعد معمل العودة للسكاكر هو أولى تلك المحاولات؛ إذ أُسس في 1977، بدأ بثلاثة عمال ليصل في 2022 لأن يكون أحد أكبر مصانع المواد الغذائية في فلسطين ومصدراً لمنتجاته إلى الأردن.
شهدت الفترة نفسها رواجاً تجارياً كبيراً بافتتاح مشاريع بيع تجزئة في قطاعات كثيرة ستتحول فيما بعد إلى قاعدة للتصنيع، كافتتاح محلات البهارات وبيع الأنسجة والأقمشة المستوردة وكذا محلات الأدوات الصحية، ومحلات الذهب، بعض رواد هذه التجارة سيتحولون مع الوقت باتجاه الصناعة التحويلية والتصدير.
تحويل التحديات إلى فرص
في منتصف التسعينات ومع إبرام اتفاق أوسلو والاتفاق المكمل في القاهرة المعروف باتفاق غزة أريحا، والوعود الإسرائيلية والأمريكية بدعم قطاع الإنتاج والتصدير، ذهب العديد من رواد التجارة إلى الصناعة التحويلية، في مجال الصيدلة تأسست شركة ميجافارم المتخصصة في منتجات التجميل والأعشاب ومواد البشرة، والتي توسعت في إنتاج العديد من المنتجات الصحية بعد عام 2003 وتزامناً مع الانسحاب الإسرائيلي من القطاع 2005.
وفي 2005 افتتح ملاك محلات بشير السكسك للأدوات الصحية مصنعاً لإنتاج المواسير البلاستيكية وأنابيب السباكة بأقطار متعددة، يمتلك المصنع 9 خطوط إنتاج، ومشغلاً لأكثر من 400 موظف وعامل في المصنع وخطوط التوزيع، وتغزو بها السوق المحلي في غزة والضفة الغربية، وتصدر بعض المنتجات إلى الأردن.
صناعة البوليمر والبلاستيك والبتروكيماويات لها حضور أيضاً في غزة، العديد من المصانع التي تنتج أكياس البلاستيك، والخزانات البلاستيكية لتخزين المياه "الفيبر جلاس" وخراطيم المياه، مصنع تل الزعتر أحد الأمثلة في هذا القطاع والموجود بالمنطقة الصناعية في غزة.
وعلى مستوى صناعة النسيج فقد بلغ إنتاجها الشهري 3 ملايين دولار شهرياً، وفيها عشرات المصانع من أبرزها مصنع حسنكو ومصنع نور البهاء، ويعمل في هذا القطاع 18 ألف عامل، وتستهلك كلها في السوق المحلي في غزة وبدرجة أقل في الضفة، ولم توفق صناعة النسيج في غزو الأسواق الخارجية لعدة لأسباب مرتبطة بتشديد الحصار الإسرائيلي على القطاع.
ويعتبر قطاع الصناعة الغذائية الأكبر في غزة من حيث عدد المصانع وحجم الإنتاج واليد العاملة، من البسكويت والشبسي والزيوت الأجبان والألبان والحلوى والأغذية المعلبة والصلصة.. إلخ، ويعد أكبر مصانعها هو مصنع بدري وهنية ومصنع العودة، وتلقى تلك المنتجات رواجاً في الضفة الغربية وفي الأردن.
أما صناعة الأثاث فهي تعتبر الأكبر في فلسطين حتى عام 2017، يستهلك القطاع بين 10 إلى 15% من إنتاج الأثاث المنزلي والمكتبي، أما بقية الإنتاج فيغزو السوق المحلية في الضفة الغربية. وفي صناعة الذهب والتعدين بلغ عدد مصانع الذهب أكثر من 45 مصنعاً قائماً على إعادة تدوير الذهب المستخدم، لينخفض إلى 10 مصانع بحلول عام 2022 بفعل الحصار. وفي قطاع الإنشاءات فقد أسست العديد من مصانع إعادة تدوير الحديد وتشكيله، وتصنيع الطوب ومواد البناء الداخلي كمصنع أبناء الحاج يوسف معروف.
بين غزة والعالم تقف إسرائيل
تأسست المنطقة الصناعية في غزة عام 1997 على 0.5 كم مربع، وذلك ضمن الاتفاقات الاقتصادية التي أبرمت بعد اتفاق أوسلو، بنيت بدعم من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID وبإشراف هيئة تشجيع الاستثمار والمدن الصناعية التي استحدثتها السلطة الفلسطينية.
لم تنجح دولة الاحتلال في ربط الفلسطيني بها وجوداً وعدماً مع تفجر أحداث الانتفاضة الثانية، وتحولت تلك المشاريع إلى عبء؛ حيث تمد القطاع بالنمو والاستقرار النسبي فسعت إلى التقييد عليها وتدميرها، واستخدامها كورقة لتجويع آلاف العمال والضغط على المقاومة في غزة، بدأت القيود الإسرائيلية بشكل مبكر قُبيل إطباق الحصار الكامل على غزة حزيران/يونيو 2006.
تضمنت اتفاقية المعابر التي أبرمت مع السلطة الفلسطينية السماح بتصدير المنتجات الفلسطينية والغزية، إما بنقلها داخلياً إلى الضفة الغربية أو خارجياً عبر معبر رفح البري، بالنسبة للضفة تراوح الأمر في فترات بين المنع والتسهيل لتلك الحركة، أما بالنسبة للتصدير الخارجي بين غزة والعالم فلم يتم إلا عبر بوابة الضفة إلى الأردن.
منعت إسرائيل غزة من الاستفادة من بيع منتجاتها الصناعية حتى توفر عملة صعبة، وتراكم بعضاً من الفوائض بالأخص مع اعتماد جميع الصناعات في غزة على استيراد 90% من المواد الخام، إلا أن أزمة العملة ليست بالأمر المهم في ظل ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بإسرائيل، وبالرغم من ذلك فقد شدد على الاقتصاد الصناعي بفرض ضرائب كبيرة على الاستيراد؛ ما يسبب نسب تضخم عالية للسلع.
بعد 2014 قامت إسرائيل بالتضييق على استيراد الأخشاب، ولحقتها بأعوام بمنع الحركة التجارية تجاه الضفة فانهارت صناعة الأثاث؛ إذ تستهلك الضفة 90% من إنتاج غزة من الأثاث. يمكن حصر مشكلات القطاع الصناعي في منع التصدير، والتقييد على استيراد مواد الخام وقطع غيار الآلات وكذا منع استيراد بعض خطوط الإنتاج، وأخيراً ضعف وجود التيار الكهربائي الذي تحتاجه تلك الصناعات.
انهارت العديد من الصناعات بعد حرب 2014 مع استهداف المنطقة الصناعية وتكرر الأمر في 2021، وبعد التضييق على مواد الخام، وخصوصاً الحديد والمواد الإنشائية والأخشاب بحجة أنها تستخدم في بناء الأنفاق أدى لتسريح آلاف العاملين في القطاع الصناعي وارتفاع نسب البطالة، حيث انخفضت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الفلسطيني في الضفة وغزة من 22% عام 1994 إلى 12% عام 2022.
أزمة القطاع الصناعي الناشئ في غزة مرتبطة بالحصار، بين التشديد والتساهل يزداد القطاع الصناعي نزيفاً، يسعى الاحتلال لاستخدامه كسلاح لإخضاع الشعب الفلسطيني في غزة بحجة التضييق على التصنيع العسكري.