لفتت رقصة البرعة اليمنية الزوار على ظهر سفينة غالاكسي ليدر أنظار الكثيرين، فيما علق البعض على أنها من أساليب الكيد اليمني بعد أسر السفينة الإسرائيلية، وكانت جماعة "أنصار الله الحوثي" اقتادت، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني، السفينة قبالة سواحل مدينة الحديدة اليمنية، بعد السيطرة عليها نصرةً لغزة في معركة طوفان الأقصى.
لتتحول السفينة إلى مزار سياحي يتوافد إليه اليمنيون من المناطق التي تسيطر عليها جماعة أنصار الله، مؤدين عليها رقصة البَرَعة اليمنية ذات الطابع الفلكلوري الشعبي، والتي أُدرجت عام 2010 ضمن التراث الشفهي اللامادي للإنسانية في اليونسكو، ولها حكاية تاريخية.
في حضرة مجتمع حربي
تنتهي صلاة العيد للتو، فجأة يُسمع قرع طبل على نغمٍ بطيء نسبياً، مُحدثاً جلبة، يتحلق الناس في شكل دائري، تاركين في المنتصف حلبة ترابية تبدو كساحة معركة فُرّغت للنزال، يتقدم أحد الحضور شاهراً خنجره "جنبيته" يهزها كأنه متشوق للقتال، ثم يبدأ بعض الجمهور بالنزال، قد يصل عدد المبارزين إلى 6، وربما 9، لكنها تنتهي باثنين في نهاية المطاف.
القائد في المنتصف يبدأ حركات إيقاعية على أرض النزال، منها رفع قدم واحدة ربما محاكاة الصافنات الجياد، والقفز على الثانية، ثم هز للجنبية حتى تعكس ضوء الشمس التي بدت تشرق لتوها، حتى تبدو الجنبية بيضاء لامعة. ترتفع وتيرة القرع والنغم الموسيقي وتزداد وتيرته وترتفع الأتربة مضيفة حركة تصويرية حربية على المضمار، ورويداً رويداً ينسحب الراقصون واحداً تلو الآخر حتى يتبقى اثنان فقط، يستعر بينهما النزال، ويكاد يظفر أحدهما بالآخر في حركات سريعة واستعراض لفنون القتال، وكأنك في أرض معركة، وهكذا يُسدل الستار عن تلك المعركة بالتفافات سريعة بين الراقصين، ودوران كامل حول بعضهما، ثم حول نفسيهما 360 درجة.
تعتبر رقصة "البَرعة" من الموروث الثقافي الحي لليمن، فالرقصة تحاكي الحرب من مبارزة وكرٍّ وفر، وهي امتداد للمعارك التي كانت تخوضها القبائل والقرى بين بعضها من إغارات وحروب، لذلك فهي ذكورية حصراً لا ترقصها النساء.
وللبرعة نغم موسيقي بسيط يُقرع على "الطاسة" و"المرفع"، وهي طبول، استخدمتها القبائل في عدة مناسبات عند الخروج للحرب لتعبئة المقاتلين في القبيلة، كذا في حالة غزو قبيلة أخرى لتنبيه أبناء القبيلة للغزو، أو طلب النصرة من قبيلة أو قرية مجاورة، وأيضاً بعد العودة بالنصر المظفر احتفاءً بتكلل حملتهم، أو بانتصارهم في رد الغازي عن أرضهم وممتلكاتهم.
كما استخدمت في الأفراح والمناسبات، واستخدمت في المفاضلة بين الخطاب للفتاة إن تقدم أكثر من شخص لخطبتها، ووُظِّفت في المراسم الجهوية التي تُعرف بـ"الجاهة" كحل مشكلة ثأر، أو تبادل الزيارات بين القبائل؛ إذ تستعرض كل قبيلة قدرتها ومهارتها في القتال.
وهي تعتبر تقنية للنداء، فوُظّفت في مواسم الأمطار والسيول؛ لتنبيه القبيلة التي تسكن أعالي الجبال القرية المحاذية لها أن هناك سيلاً قادماً، وهكذا تفعل كل قرية، تقرع الطبول حتى يتنبه المزارعون أو أبناء القرى في أسفل الوادي للسيول حتى لا تفقد الأرواح.
الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح يرقص "البرعة الحارثية" في زفاف نجله
الطاسة والمرفع
كأي رقصة تعتمد على الإيقاع؛ إذ هي سر الرقصة التي تعتمد على آلتي قرع، وهما "الطاسة" والمرفع"، والطاسة هي المسؤولة عن النغم وتسارعه، تتكون من نحاس وجلد البقر وصوتها حاد نسبياً، أما المرفع فهو ذو صوت غليظ، ويتكون من الخشب وجلد الماعز أو البقر، ونغمها رتيب ونغمة واحدة طوال القرع.
يجلس القارع على المرفع على الأرض، ويبدأ في القرع حتى يستوي النظم الرتيب، ثم يدخل القارع على الطاسة بنغمه وهو واقف عادة، ويبدأ في تحريك النغم والتسارع، كما أن عادة القارع على الطاسة والمرفع ما يطيلون شعر رأسهم كإشارة للقتال والحرب، وهي ممارسات قبلية قديمة جداً مستمرة حتى يومنا هذا، وربما يشارك القارعون بعض الحركات الفكاهية والتحفيزية للجو العام، كدعوة للمتفرجين للمبارزة والنزول إلى الحلبة.
تنقسم موسيقى الرقص إلى 4 إيقاعات على الأغلب، ولكل مرحلة اسم، الأولى بإيقاع بطيء يسمى باللهجة الدارجة "الدسعة" وهو رتيب، ثم ينتقل إلى سرعة أعلى وهو "الوسطى"، ويتبعه بعد ذلك الإيقاع "السارع" وهو أسرع مما سبقه من الإيقاعات؛ ولأن الإيقاع الأخير هو الأسرع نشاهد فيه تسارع الإيقاع يفوق الإيقاعات السابقة، وهو إيقاع "الهوشلية" إذ إن الراقص يصل إلى ذروة السرعة في أدائه الحركي الذي يوصله لدرجة الإنهاك "فهق"، وجميع رقصات البرع تنتهي بإيقاع "الهوشلية"، الذي يكون بين مبارزَين اثنين فقط.
يساعد التسارع في رفع الأدرينالين، كما يفسر بعض الباحثين أن التسارع هذا غرضه الإحماء؛ لأن القرى في شمال اليمن والوسط على ارتفاعات كبيرة، حيث تنخفض نسبة الأوكسجين مما يستحيل معه الدخول إلى مرحلة المبارزة "الهوشلية" وهي الغاية المطلوبة من دون إحماء، كما أن المراحل الأولى بمثابة استدعاء المتفرجين وأبناء القبيلة.
البصمة المختلفة لكل قبيلة
يختلف كل إيقاع ورقصة من منطقة جغرافية إلى أخرى، وربما بين قبيلتين متجاورتين، وهناك بصمة تميز كل قبيلة عن أخرى كشكل الأداء، مثلاً في رقصة البرع الصنعانية أو الحاشدية تعتمد على الانتقال من شكل خط مستقيم، ثم دائري، ثم العودة إلى خط مستقيم، وهكذا مهما تغيّر عدد الراقصين "المبترعين".
وأبرز البرعات "الحاشدية، الهمدانية، الحارثية، الصعدية، الخولانية، الدخيلية، اليافعية، المأربية، الحريرية" هي مرتبطة بالقبيلة ومناطق القبائل في شمال وغربي اليمن، كصنعاء وعمران والمحويت وحجة وذمار وصعدة.
ويعتبر الخنجر (الجنبية) أساسياً فيها، تبدأ برفع رجل واحدة، ثم بالتقدم للأمام والعودة إلى الخلف بالظهر والدوران الكامل حول النفس، ثم هز الخنجر بعد تمام كل حركة. أما في تهامة، أقصى غربي اليمن، وهي مجتمعات صيد لا زراعة يُستغنى عن الخنجر وتختلف حركاتها، حيث يشكل الراقصون خطاً مستقيماً بأجسادهم يقومون بالإمساك بكفهم بمن في جوارهم يميناً ويساراً والتحرك بشكل أكثر انسجاماً، وعادة ما يقفز بالقدمين.
أما في المهرة، شرقي اليمن، وفي جنوب عُمان وغربها لها نمط مختلف تماماً، يتخلى فيه عن النغم المميز لأهل شمال وغربي اليمن كما يستخدم فيها المزمار أكثر، وتعتمد على القفز بالرجلين والتناغم الشديد، ولا تبرز الكثير من مهارات القتال تحديداً "المبارزة" بين الراقصين والتنافس.
أما جنوب اليمن، فلديه رقصات أخرى مرتبطة بثقافة البحر أكثر من الزراعة والجبال المميزة للانتشار الجغرافي لرقصة البرعة.
الفناء الداخلي للمجتمع الحربي
بصورة عامة، تعبر "البرعة" بمشتملاتها من رقص وقرع عن مجتمع زراعي حربي مقاتل، وهي مرتبطة بثقافة القرية في أعالي الجبال، فالمجتمع الزراعي الحربي لا يعتمد كثيراً على الصيحات كما هو معروف في شرق ووسط الجزيرة العربية، كما أنه موروث ثقافي كثيف يعبر عن الحرب والفخر بساحة المعركة، واستدعائها في كل مناسبة، حيث تشير لأحد الوظائف الاجتماعية للقبيلة في حماية أفراد القبيلة، والتجنيد السياسي والتعبوي لتماسكها، أي إنها أشبه بالعروض العسكرية في الاحتفالات بالأعياد الوطنية في الدولة القومية.
تشير الباحثة نجوى عدرا إلى أن الموروثات الشعبية كانت تتناقل مقولات حول وجوب تعليم الأطفال "القتال، الشعر، والبرعة، والزراعة والبيع في الأسواق"، بل اعتبرتها الكثير من القبائل هي أولى خطوات تعلم القتال للنشء الصغير، حتى يتقن المبارزة وكسر الرهبة من المنافسة والإقدام، حيث يكون الأكثر إتقاناً من أبناء القبيلة لفنون المبارزة والكر والفر في منتصف الراقصين، ويحاول النشء أو الأقل خبرة مجاراته.
ما زالت البرعة حاضرة بقوة في الحياة اليمنية والممارسة اليومية، في حفلات الزفاف وفي الأعياد الدينية والوطنية، وقد أُضيف لها عنصر جديد وهو الرشاش الآلي "الكلاشنكوف"، حيث تُحمل الجنبية باليد اليمنى أما الكلاشنكوف فيُسنَد باليد اليسرى على الكتف، وتكون من البراعة الحفاظ على النسق وكأن السلاح جزء من جسده لا يتحرك أبداً ولا يتزحزح من مكانه أثناء أداء الرقصة، في إشارة لالتحام الفرد بسلاحه مهما تغيّر نوعه أو مستوى تطوره.
هذه اللوحة الفنية تعبّر عن تاريخ ثقافي حي، استُدعيت اليوم كنوعٍ من الابتهاج بالظَفر على ظهر سفينة "غلاكسي ليدر"، ليست للنكاية فحسب، وإنما اعتزاز بالمشاركة في معركة طوفان الأقصى، وصبغ تلك المشاركة بالهوية اليمنية الخالصة.