في مقدّمتها خبز الصاج والطابون الفلسطيني.. فرضت الحرب التي تشنّها قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، على الفلسطينيين أن يبحثوا عن وسائل بديلة لمواجهة متطلبات الحياة، وذلك في ظلّ قلة الموارد والطعام والمياه، فضلاً عن انقطاع الغاز والكهرباء، ومنع دخول المحروقات.
توقف المخابز عن العمل في كل أنحاء القطاع، فلم يكن أمام أهل غزّة من أمل في البقاء على قيد الحياة، سوى اللجوء للحلول القديمة للحصول على الخبز، حيث عمدوا إلى استخدام ما يُسمّى بالأفران الطينية، إذ طوعت نساء غزة جهودها لتوفير خبز الصاج و الطابون الفلسطيني، كما قمن بتجهيزه للنازحين وتوزيعه مجاناً، وهو ما نقلته عدسات المصورين والصحفيين على منصّات السوشيال ميديا، توثيقاً لجانب آخر من معاناة الشعب الفلسطيني.
أصول خبز الصاج و الطابون الفلسطيني
الطابون هو نوع من الخبز المسطّح، المخبوز تقليدياً في فرن الطابون، المصنوع من الطين الذي استخدمه الغزّيون منذ قرون، يكون الخبز طرّياً من الداخل ومقرمشاً من الخارج، يضفي الزعتر المدموج بعجينته، والذي يعدّ تطوراً حديثاً مذاقاً فريداً له، كما توضع فيه بذور السمسم المحمّص والسماق والأعشاب.
الصاج ويُلقب أيضاً بخبز "الرقاق"، أو "الشراك"، ويتكون من الدقيق، بنوعيه الأبيض أو القمح، والقليل من الملح والسكر والماء الدافئ، ويُعدّ بتقطيعه إلى كرات صغيرة، ثمّ يُرش فوقها قليل من الدقيق، منعاً لالتصاقها وتسهيلاً لرقها، وهو دائري الشكل، ويبدو لك كأنه شفاف عند خبزه.
ويعدّ كل من خبز الصاج و الطابون الفلسطيني جزءاً من أطباق فلسطين التراثية المتعددة، في مقدّمتها "الفتّة" الفلسطينية، التي يشتهر الفلسطينيون بطهيها يوم الجمعة، إضافة إلى استخدامه في أحد أنواع الشاورما، وصناعة شطائر "المسخن" الفلسطيني.
ظهور الخبز لأوّل مرّة في التاريخ
يرتبط تاريخ استخدام الخبز كغذاء بتاريخ اعتماد الإنسان على الحبوب، تحديداً عام 8000 ق.م باعتبار أنّ الخبز منتج مصنوع مباشرة من الحبوب بطريقة يدوية (في وقت لاحق صُنع بالآلات).
في بداية الأمر يقع طحن الحبوب بواسطة الحجارة، ثم يتم تبليلها لتصبح صالحة للأكل وهي الطريقة الأعرق على الإطلاق التي كان يعتمد عليها أسلافنا القدماء..
منذ ذلك الوقت بدأت زراعة الطعام ورعاية الماشية في أولى مراحل الحضارة الإنسانية، وكان الخبز يُصنع من الحبوب المتاحة في أرض كلّ دولة، ويُعَدّ الخبز البدائي المصنوع من الشعير من أوَّل الأغذية التي صُنِعَت في تاريخ الغذاء.
نشأت هذه الصناعة في وسط أسيا، ثمَّ وصلت إلى البحر الأبيض المتوسط من خلال بلاد ما بين النهرين، ثم قام السومريون أثناء فترة حكم "جمدة نصر" بتعليم المصريين طريقة طهي الخبز، ليطوّر المصريون في مرحلة مقبلة عمليّة الزراعة إلى أن غدا الخبز يمثل ثقافة الشعوب والبلدان.
وقد ورد ذكر كلمة بيتا في اللغة الإنجليزية في قاموس أوكسفورد الإنجليزي لأول مرة عام 1936، حيث تمت استعارة هذه الكلمة من اليونانية الحديثة بتأثرها من اليونانية البيزنطية، والتي تعني خبزاً أو فطيرة أو كعكة.
أقدم رغيف خبز في العالم في بلاد الشّام
أكتُشف أقدم رغيف خبز في العالم سنة 2018 في الأردن، من قِبل فريق من علماء الآثار والباحثين الأوروبيين من كلية لندن الجامعية، وجامعة كامبردج، وجامعة كوبنهاغن، وهو دلالة على ميلاد الزراعة في هذه المنطقة قبل آلاف السنين.
وقد تمّ العثور على بقايا رغيف متفحم في موقع الشبيقة الأثري شمال شرق الأردن يعود تاريخها إلى 14400 سنة. ويعني هذا الاكتشاف، الذي عثر عليه في الصحراء السوداء بالأردن، أن الخبز قد صُنع قبل أكثر من 5000 عام، مما كان يُعتقد سابقاً وفقاً لموقع بي بي سي.
ونقلت صحيفة الديلي تلغراف عن البروفيسور دوريان فولر من معهد علم الآثار في كلية لندن الجامعية قوله إن صنع الخبز عملية تتسم بكثافة العمل الذي تتطلبه بما في ذلك فصل القشور وطحن الحبوب وعجنها ثم خبزها.
القمح الفلسطيني زراعة عريقة منذ القدم
علاقة أرض فلسطين بالقمح ضاربة في القدم، حيث إنّ الفلّاح الكنعاني كان أوّل من مارس زراعة الحنطة، بينما كان غيره يعيش على الصيد والمرعى – كما يقول الدبّاغ في كتابه الفريد "المملكتان النباتية والحيوانية في بلادنا فلسطين".
ويتّفق خبراء الزراعة على أنّ فلسطين وبلاد الشام عرفا زراعة القمح والحنطة مُنذ العصر الحجري الوسيط، وهو العصر الذي امتد نحو 6000 سنة، ابتداءً من حوالي 12000 ق. م.
في هذا الخصوص يذكر عالم الآثار الهولندي هنري فرانكفورت في كتابه "فجر الحضارات في الشرق الأدنى" أن الأصول البرية الأولى للقمح والشعير لا تزال موجودة في سوريا وفلسطين، وأن فن الحصاد تطور في هذه المنطقة منذ القدم.
وقد كان "النطوفيين" مدعوون بهذا اللقب نسبة إلى وادي ناطوف (شمال غرب رام الله)، وهم أوّل من بدأ بالحصاد عبر مناجلهم الغربية (والبديع)، والتي كانت مكوّنة من مقبض عظمي مشقّق فيه قطع قصيرة من الصوّان كالأسنان.
مرج ابن عامر "سلة خبز فلسطين"
يسرد كتاب "المحاصيل الحقلية" الذي ألّفه وصفي زكريا عام 1951، أشهر أصناف الحبوب التي زُرعت في فلسطين وأقدمها.
ورغم تعدّد أصناف القمح في فلسطين إلا أنّ أشهرها هو النورسي في مرج ابن عامر، وهو مرج واسع بين منطقة الجليل وجبال نابلس في شمال فلسطين يأخذ شكل مثلث، أطرافه مدن: حيفا، جنين وطبريا.
وصفه المؤرخ الفلسطيني الدبّاغ بأنه "سلّة خبز فلسطين" لكثرة زراعة القمح والحبوب فيه.
كما يؤكد صاحب "خُطط الشام" محمد كرد هذه الحقيقة قائلاً عن القمح النورسي فيقول: "وأما النورسي فيُزرع في فلسطين، وهو يُعرف بسنبلة مستطيلة ذات سفا، وحبات مستطيلة حنطية إلى حمرة" وفق ما جاء في مقال بعنوان تاريخ القمح في فلسطين من "مناجل الصوّان" إلى اجتياح "قمح الغريب"، نشره موقع MA'AN .Development Center
أمّا "جميل ضبابات" فقد كتب عام 2018 مقالاً بعنوان "مأساة حبة قمح في فلسطين" يصف فيها ما آلت إليه أحوال القمح الهيتي، التي أصبحت "نادرة"، وقد وجدها الكاتب تُزرع في "قرية الساوية" ويصنع منها رغيف الطابون البلدي اللذيذ.
ذاكراً أنّه لم يتبق ما يحفظ قمح فلسطين اليوم كموروث ثقافي زراعي ممتد لآلاف السنين سوى "موسم الفريكة" في سهول قرية عجة ودير غزالة في جنين وبلدة عرابة في مرج البطوف في الجليل وكذلك قرى رام الله مثل سنجل وترمسعيا وحتى يطا في الخليل.
وفي دراسة قام بها المستشرق "غوستاف دالمان"، الذي قضى أكثر من 15 عاماً من حياته في فلسطين، تحت عنوان "العمل والعادات في فلسطين" -بالألمانية: Arbeit und Sitte in Palästina- تناول فيها التراث الشعبي الفلسطيني في سبعة مُجلدات ضخمة عُمرها حوالي 100 عام.
كتب في المجلد الرابع عن صناعة الخبز والزيت والخمر في أكثر من 500 صفحة، كما عرض في نهاية المجلد صورة توضيحية لأنواع الخُبز المتعارف عليها في فلسطين خلال إقامته، والتي يصل عددها إلى 13 نوعاً، من الكعك المبروم إلى الكعك المُسَمْسَم، مروراً بالكماج و"المرقوق" و"الكردوش"، وحتى خبز الصاج والطابون وفق قناة الجزيرة.
خبز الصاج و الطابون الفلسطيني بين الماضي والحاضر
تأسّست معظم أفران فلسطين منذ ما يزيد على قرن من الزمان، ثمّ توارثتها العائلات جيلاً بعد جيل، وإن كان فرن أبو اسنينة أقدمها، وفقاً للباحثة في تراث الطعام أمل النشاشيبي.
ثمّ تأثرت الأفران في القدس القديمة بدخول الآليات الحديثة في صناعة الطعام، كما ساعد اقتناء الناس أفراناً منزلية في تخليهم جزئياً عن الاعتماد على الأفران القديمة في صناعةخبز الصاج والطابون الفلسطيني وفق المصدر ذاته.