بعد مسار توثيق طويل لشعر وفن الملحون المغربي، أقرّت اللجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي لمنظمة اليونسكو، اليوم الأربعاء 6 ديسمبر/كانون الأول، طلب المملكة المغربية بشأن إدراج فن "الملحون" في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.
أكدت أكاديمية المملكة المغربية أن هذه الجهود تعتبر اعترافاً دولياً بالإرث المغربي الأصيل، ومكملاً مهماً للروافد الفنية الغنية للمغرب، وجزءاً من هويته الثقافية العريقة.
وفقاً للملف المقدّم لليونسكو، يُعرَّف "الملحون" كتعبير شعري موسيقي مغربي عريق، نشأ في منطقة تافيلالت بالجنوب الشرقي للمغرب، وتطور أولاً داخل الزوايا في المنطقة، قبل أن ينتشر تدريجياً إلى المدن الكبيرة.
يُرى فيه تجسيد للتراث الثقافي المغربي، ويعتبر أحد العناصر الثقافية غير المادية التي يشرف عليها التراث العالمي. بعد تسجيل "الملحون المغربي"، أصبح المغرب يتمتع حالياً بـ13 عنصراً في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية برعاية اليونسكو.
ماهو فن الملحون المغربي؟
فن الملحون المغربي يشكل نبرة فريدة وثقافة غنية في تراث المغرب. يُعرف الملحون بأنه شعر شفهي يتم نقله من جيل إلى جيل، حيث يقوم الحفاظ على غنائه وترديده، إبرازاً لمواهب الشعراء والمبدعين. ويتميز الملحون المغربي بتقديم الشعر عبر "شيخ النظَام" و"شيخ النشاد"، مما يمنحه طابعاً فنياً فريداً.
يعتبر هذا الفن توثيقاً حي للذاكرة الجماعية المغربية، حيث يحافظ على التراث الشفهي ويمنعه من الاندثار. يتضمن الملحون مصطلحات متعددة مثل "الموهوب" و"السجية" و"الشعر"، تعكس جوانب إبداعية متعددة، وتثري المحتوى الثقافي.
يتمتع الملحون بخصائص فنية ودلالات تعكس الأنماط الأدبية المتنوعة، ويتناول قضايا وطنية وسياسية واجتماعية. يُظهر الشعر الملحون المغربي جوانب متنوعة من حياة المجتمع المغربي، ويسلط الضوء على العادات والتقاليد بأسلوب جمالي.
تشير الفنانة ليلى لمريني إلى أن أدب الملحون يعكس الذاكرة المغربية، مبرزة أهمية تسليط الضوء على التقاليد والتاريخ بشكل جمالي. يظهر الشعر الملحون، بأسلوبه الرصين والمتميز، ملمحاً إلى قوة اللغة المغربية وتميزها.
يعتبر الملحون فناً يتناغم مع تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع المغربي، مُعبراً عن ثقافته وتقاليده. يعتبر الملحون جزءاً من التراث الثقافي، حيث تندمج القضايا السياسية والاجتماعية في قصائده، ويعتبر فن الملحون منظومة شعرية تشمل أنواعاً متنوعة.
القضية الفلسطينية في شعر الملحون
عندما نلقي نظرة على تاريخ شعراء "الملحون" في المغرب، نجد أنهم لم يتجاهلوا الأحداث المؤلمة التي شهدتها فلسطين منذ بداية الاحتلال حتى اليوم. ففي قصائدهم انعكس اهتمامهم العميق بالقضايا الوطنية والقومية، حيث عبّرُوا عن حس وطني يتجاوز الحدود المحلية ليمتد إلى أبعد من ذلك، يجسد وحدة الانتماء الوطني.
أحد الأمثلة المشرقة لهذا التجاوب الشعري يظهر في قصيدة "الفلسطينية" للشاعر المراكشي الشيخ الحاج محمد بلكبير. يقول في مقدمتها:
"لله آهل الإسلام بادروا بالتوبة واستَغفروا واطلبوا مُولانا
يفجي هذا الغمَّة على الجميع ويشفي المصاب".
تعتبر هذه القصيدة علامة بارزة على اهتمام "الملحون المغربي" بالقضايا الوطنية، حيث قدمها الشاعر إلى أكاديمية المملكة، إظهاراً لتعدد مواضيع تراثه الشعري الغني.
في سياق متشعب، يُشير الباحث عبد الصمد بلكبير إلى أن هذه القصائد تعكس اندماج الشعراء الشعبيين مع القضايا الوطنية والقومية، مع التأكيد على دورهم في إيصال رسالة مشتركة. وفي هذا السياق، يبرز شيخ أشياخ مراكش الحاج محمد بن عمر، الذي أبدع في الأغراض الاجتماعية والوطنية من خلال قصائده اللامعة.
في قصيدته أثناء الحرب على فلسطين في عام 1967، يناشد الشيخ: "صُونُوا بِيتْ المقدسْ يَا ارّْجَالْ النَّجْدَة نَصرُوا الدِّينْ يَا أهل لِيمَانِي.. وَاحموهْ مَن لَعْدَا اتّْفَرْ مَنُّوسَايَرْ لِيهُودْ".
تعتبر هذه الكلمات شاهداً على استجابة الشعر الشعبي لأحداث الزمان الكبير، حيث يبرز دوره في تسليط الضوء على "وقائع الوطن الكبير".
الملحون من الطبقة الشعبية إلى العموم
يُشير الباحث المغربي عز الدين المعتصم إلى أهمية الجامعة كمحور أساسي في تعزيز الشعر الملحون، الذي يُعد جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية للمغاربة.
إذ يُبرز المعتصم دور مختبر اللغة والمجتمع في كلية الفنون والآداب واللغات بجامعة ابن طفيل بمدينة القنيطرة، الذي وضع أسساً قوية لمشروع نقدي متين. يتمثل هذا المشروع في استخدام المناهج النقدية الحديثة لفهم الشعر الملحون المغربي وخطابه بشغف، بهدف التعمق في عالمه.
فيما يُضيف الباحث المغربي عبد المجيد فنيش أن فن الملحون لم يتوقف أبداً، خاصة في عهد الازدهار والرقي بين القرنين السابع عشر والثامن عشر.
كما تم تسجيل أكثر من ألفي شاعر للملحون المغربي، وقد ارتبط هذا الفن والأدب بهموم الحياة اليومية في المغرب. تتردد أشعاره في المآتم والأفراح، مما يُظهر تأثيره العميق في المجتمع.
وعلى الرغم من أن الملحون نشأ من الطبقة الشعبية، فإن الحرفيين المغاربة يشكلون القاعدة الواسعة لهذا الفن، سواء كانوا منتجين أو متلقين. استطاع هؤلاء الحرفيين إبداع قصائد غنية بالرموز والإيحاءات، تشكل فضاءً للسفر في الزمن النفسي.
في العصر الحديث أكد الباحث عز الدين المعتصم أن أكاديمية المملكة المغربية نشرت العديد من الدواوين الشعرية لشعراء متميزين، مثل عبد العزيز المغراوي والجيلالي امتيرد ومحمد بن علي العمراني، وغيرهم.
تلك الأعمال الشعرية تسهم في إبراز الصورة الشاملة والخاصة للتراث الشفهي المغربي، مما يفتح أفقاً لفهم الظواهر الأدبية التي تحتاج إلى دراستها وتحليلها.
قصائد الملحون في المغرب
تتسم قصيدة الملحون بقدرتها الفريدة على استكشاف جوانب الحياة وتفسيرها، مما يجعلها قادرة على الانتشار عبر الحدود وتجاوز الثقافات المتنوعة. يتجلى هذا التأثير عبر استغلال اللغة بمهارة في وظائفها الإبداعية والتفسيرية، حيث يتطور الإبداع بشكل عام عبر الوعي المعرفي والثقافي المتراكم، وتأثير الحركات الإبداعية المتوالية.
يرى العديد من الباحثين أن هذا التطور في الإبداع يتطلب تحسيناً في طرق التناول والاهتمام. ويحظى فن الملحون المغربي بمكانة خاصة في الثقافة المغربية، حيث يسلط الضوء على انتصار اللغة الأم والهوية الأصلية للإنسان المغربي.
ويعتبر الشعر الملحون، ثرياً لغوياً، حيث يظهر كخزان لأشكال ثقافية ذات سند شرعي وهوية أصيلة. يعبر عن ظاهرة اجتماعية تتجاوز الإطار الأدبي والفني لترتقي إلى مستوى شمولي ومشرق.
وعلى ذلك، يدعو العديد من المغاربة إلى رفع مكانة الشعر الملحون كذاكرة حقيقية، حيث يعكس واقعهم وتاريخهم بتلقائية فريدة. يشدد على ضرورة دراسته كمحفز لتوثيق التاريخ الاجتماعي للمغرب، ويبرز قيمته من خلال مظاهره المتنوعة من ناحية القيم والنظم والإنشاد.