في تاريخ الحروب، تظهر بعض التكتيكات التي تترك بصمات قوية في الأذهان وتستمر في التاريخ مثل حفر الأنفاق في غزة، ولكن هذا التكتيك لم يكن في غزة وحدها وحسب بل أيضاً في فيتنام، فما الذي تعرفه عن "أنفاق كو تشي" التي دوّخت القوات الأمريكية؟
أنفاق كو تشي في فيتنام
لم تكن أنفاق "كو تشي" الفيتنامية، مجرد هياكل تحت الأرض، بل كانت وسيلة حياة ومقر دائم للمقاومة خلال حرب فيتنام ضد القوات الأمريكية.
رغم أن هذه الأنفاق وُلدت في سياق حرب فيتنام، فإن تطورها واستخدامها أثر بشكل كبير على مجريات الحروب المستقبلية.
بالتحديد، تلك الأنفاق لم تقتصر على ميادين القتال في فيتنام، بل أصبحت مصدر إلهام لمناطق أخرى عبر التاريخ.
حفرها الشيوعيون لمحاربة القوات الأمريكية
من أجل محاربة القوات الأمريكية والفيتنامية الجنوبية التي تقاتل إلى جانب أمريكا خلال حرب فيتنام، قامت قوات الشيوعية المعروفة باسم فيت كونغ (VC) بحفر مئات الكيلومترات من الأنفاق، بما في ذلك شبكة واسعة تمتد تحت منطقة "كو تشي" شمال غرب سايغون الحدودية مع جنوب فيتنام.
استخدم الجنود هذه الطرق تحت الأرض لإيواء القوات، ونقل الاتصالات والإمدادات، ووضع الأفخاخ المتفجرة، وشن هجمات مفاجئة، والتي مكنتهم بعد ذلك الاختفاء تحت الأرض والاختفاء.
ولمكافحة تكتيكات حرب العصابات هذه، قامت القوات الأمريكية والفيتنامية الجنوبية بتدريب جنود يُعرفون باسم "فئران الأنفاق" على التنقل في الأنفاق من أجل اكتشاف الأفخاخ المتفجرة ووجود قوات العدو وفقاً لما ذكرته مجلة Business Insider الأمريكية.
أصبحت أنفاق كو تشي الآن جزءاً من الحديقة التذكارية لحرب فيتنام في مدينة "هوشي منه" (سايجون سابقاً)، وهي منطقة جذب سياحي شهيرة.
حفر أنفاق كو تشي
بدأت القوات الشيوعية فييت كونغ في حفر شبكة من الأنفاق تحت غابات فيتنام الجنوبية في أواخر الأربعينيات، خلال حرب الاستقلال عن السلطة الاستعمارية الفرنسية.
غالباً ما كان يتم حفر الأنفاق يدوياً، ولم يتم حفرها إلا لمسافة قصيرة في كل مرة.
مع تصعيد الولايات المتحدة لوجودها العسكري بشكل متزايد في فيتنام لدعم النظام غير الشيوعي في فيتنام الجنوبية بدءاً من أوائل ستينيات القرن الماضي، قامت قوات فيتنام الشمالية وقوات فييت كونغ بتوسيع الأنفاق تدريجياً.
خلال ذروة حرب فيتنام، استطاعت قوات فييت كونغ من حفر شبكة واسعة من الأنفاق تمتد على مسافة 250 كيلومتراً تقريباً وتصل ما بين ضواحي سايجون وصولاً إلى الحدود الكمبودية.
ووفقاً لما ذكرته صحيفة The Hindu Business Line فإن الأنفاق عبارة عن شبكة من 3 مستويات من مساحات المعيشة، المخصصة للطهي وأماكن الاختباء وأماكن استهداف الأعداء.
ونظراً لاعتماد الولايات المتحدة بشكل كبير على القصف الجوي، وجدت قوات فيتنام الشمالية وقوات فييت كونغ الأنفاق تحت الأرض وسيلة آمنة من أجل البقاء ومواصلة تكتيكات حرب العصابات ضد فيتنام الجنوبية وأمريكا.
أنفاق كو تشي ضمت قرى بأكملها ومستشفيات ومسارح وقاعات موسيقى!
في المناطق التي تعرضت للقصف الشديد، قضى الناس معظم حياتهم تحت الأرض، ونمت أنفاق كو تشي لتضم قرى بأكملها تحت الأرض، مع أماكن للمعيشة، ومطابخ، ومصانع الذخائر، والمستشفيات، والملاجئ.
وفي بعض المناطق كانت هناك مسارح كبيرة وقاعات موسيقى لتقديم عروض ترفيهية لرفع الروح المعنوية، وفقاً لما أكده موقع History التاريخي.
فيما لفت شبكة NBC News الأمريكية إلى الفيتناميين قاموا أيضاً ببناء آبار المياه تحت الأرض لأن الأمريكيين قاموا تفخيخ أو تسميم الآبار الموجودة فوق الأرض.
بالإضافة إلى توفير المأوى تحت الأرض، لعبت أنفاق كو تشي دوراً رئيسياً أثناء العمليات القتالية، بما في ذلك استخدامها كقاعدة للهجمات الشيوعية ضد سايغون القريبة.
نصب جنود فييت كونغ المتربصون في الأنفاق العديد من الأفخاخ المتفجرة لجنود المشاة الأمريكيين والفيتناميين الجنوبيين، وزرعوا أسلاكاً من شأنها أن تطلق قنابل يدوية أو تقلب صناديق العقارب أو الثعابين السامة على رؤوس قوات العدو.
فئران الأنفاق كانوا وسيلة الأمريكان الوحيدة لتجنب الأفخاخ
ولمكافحة تكتيكات حرب العصابات هذه، قامت القوات الأمريكية في نهاية المطاف بتدريب بعض الجنود للعمل كما يسمى "فئران الأنفاق"، يقضي هؤلاء الجنود (عادةً من ذوي القامة الصغيرة) ساعات في التنقل في الأنفاق المظلمة الضيقة لاكتشاف الأفخاخ المتفجرة واستكشاف قوات العدو.
في يناير/كانون الثاني 1966، حاول حوالي 8000 جندي أمريكي وأسترالي اجتياح منطقة كو تشي في حملة واسعة النطاق من الهجمات.
بعد أن أسقطت قاذفات القنابل من طراز B-52 كمية كبيرة من المتفجرات على منطقة الغابة، قامت القوات بتفتيش المنطقة بحثاً عن نشاط الفيتناميين لكنها لم تنجح إلى حد كبير، حيث اختفت معظم القوات الشيوعية في شبكة الأنفاق تحت الأرض.
وبعد مرور عام، أطلق نحو 30 ألف جندي أمريكي عملية "سيدار فولز"، حيث هاجموا المعقل الشيوعي في مقاطعة بينه دونج شمال سايجون بالقرب من الحدود الكمبودية (منطقة تعرف باسم المثلث الحديدي) بعد سماع تقارير عن وجود شبكة من أنفاق العدو هناك.
وبعد الهجمات بالقنابل وتدمير حقول الأرز ومناطق الغابات المحيطة بمبيدات الأعشاب القوية، تحركت الدبابات والجرافات الأمريكية لتجتاح الأنفاق، ما أدى إلى طرد عدة آلاف من السكان، وكثير منهم من اللاجئين المدنيين.
أدت عملية "سيدار فولز" إلى انسحاب القوات الفيتنامية الشيوعية فييت كونغ وحليفتها القوات الشمالية في غضون أشهر من الاجتياح، ولكن في أوائل عام 1968، عادت تلك القوات واتخذت من الأنفاق ذاتها معقلاً رئيسياً لإطلاق "هجوم تيت".
تراجعت القوات الفيتنامية الشمالية في غضون أشهر من الاجتياح، وفي أوائل عام 1968، استخدموا الأنفاق كمعقل في هجومهم على سايغون خلال هجوم تيت الذي أطاح بالرئيس الأمريكي آنذاك ليندون جونسون، الذي امتنع عن ترشيح نفسه لإعادة انتخابه بعد تراجع شعبيته بسبب ما تكبدته قواته من خسائر في هذا الهجوم، فيما كانت هذه الأنفاق سبباً رئيسياً في هزيمة القوات الأمريكية في فيتنام.
إجمالاً، يُقال إن ما لا يقل عن 45 ألف رجل وامرأة فيتناميين لقوا حتفهم أثناء الدفاع عن أنفاق كو تشي على مدار حرب فيتنام التي انتهت في 1975، لتقوم الحكومة الجديدة للبلاد التي وحدت ما بين الشماليين والجنوبيين في الحفاظ على الأنفاق وأدرجتها في شبكة من المتنزهات التذكارية للحرب في جميع أنحاء البلاد.
واليوم يمكن لزوار فيتنام الآن الزحف عبر بعض المناطق الأكثر أماناً في الأنفاق، ومشاهدة مراكز القيادة والأفخاخ المتفجرة، وإطلاق النار من بندقية AK-47 في ميدان الرماية، وحتى تناول وجبة تحتوي على الأطعمة النموذجية التي كان الجنود الذين يعيشون في الأنفاق يأكلونها.