تُعرّف متلازمة ستوكهولم بأنها ظاهرة نفسية تصيب الفرد، عندما يتعاطف مع مَن أساء إليه بشكلٍ أو بآخر، أو يُظهر بعض علامات التعاون معه، قد تصل أحياناً إلى درجة الدفاع عنه والتضامن معه.
هذا ما شاهدناه في مسلسل La Casa De Papel مثلاً، حين تعاطف بعض الرهائن مع الخاطفين، ووصل الأمر ببعضهم إلى حدّ الوقوع في الحب؛ كما حصل مع دنفر -أحد أفراد عصابة السطو- الذي دخل بعلاقة مع مونيكا، إحدى رهائن دار سكّ العملة الإسبانية.
وفي الواقع، فإن قصة الحب هذه بين دنفر ومونيكا مُقتبسة من قصة واقعية حدثت فعلاً قبل 50 عاماً، كانت سبباً في ظهور مصطلحٍ جديد بمجال علم النفس "متلازمة ستوكهولم"؛ حين سطا مجرمٌ على أحد المصارف في السويد، واحتجز رهائن على مدى 6 أيام.
فما هي قصة متلازمة ستوكهولم؟
في صباح 23 أغسطس/آب عام 1973، دخل جان إريك أولسون- وهو مجرم سويدي هارب من العدالة- مصرف Kreditbanken في العاصمة السويدية ستوكهولم، وأطلق النار في الهواء مستخدماً مدفعاً رشاشاً، ثم صاح بالإنجليزية: "بدأت الحفلة".
كان أولسون يضع مورّداً للخدود وشعراً مستعاراً مموجاً، إضافةً إلى نظارة زرقاء، كما كان يعلو وجهه شارب أسود. ثم بدأت الأمور تـأخذ منعطفاً غريباً يوماً بعد يوم، على مدار الأيام الـ6 التي سطا فيها على المصرف.
ففزع الرهائن لم يستمر، لا بل في واقع الأمر، نشأت علاقة مفاجئة بين منفذ عملية السطو ورهائنه الأربعة خلال الأزمة التي أذهلت الشرطة وصدمت الشعب السويدي، والتي ولّدت مصطلح "متلازمة ستوكهولم" الشهير.
كان أولسون محكوماً عليه بالسجن 3 سنوات لإدانته في سرقة كبرى، قبل أن يُمنح إفراجاً مؤقتاً في مطلع أغسطس/آب 1973 بسبب حسن سلوكه، فبدأ في التخطيط لسرقة غير تقليدية تماماً.
فما الذي حدث فعلياً خلال هذه الأيام الستة، حتى انقلبت المعادلة، ونجح الخاطف بأن يكسب ثقة الرهائن وتعاطفهم معه؟ إليكم تفاصيل متلازمة ستوكهولم:
اليوم الأول.. داخل القبو
في البداية، وحين دخل جان إيريك أولسون المتنكر إلى المصرف، قرر عدم الهروب بالأموال التي سيحصل عليها. بدلاً من ذلك، أخذ الموظفين الثلاثة رهائن، وأرسل طلباته إلى الشرطة عندما وصلت المكان.
أراد أولسون 3 ملايين كرونة سويدية (ما يساوي 710 آلاف دولار في ذلك الوقت) وسيارة هروب سريعة. بالإضافة إلى ذلك، ومن أجل المساعدة في تنفيذ خطته، طلب من الشرطة أن تُخرج كلارك أولوفسون من السجن.
كان أولوفسون زميل أولسون السابق في السجن، وهو سارق بنوك متمرس، حتى إن هروبه المتكرر من السجن -وبطرق إبداعية مختلفة- جعلته شخصية مشهورة في السويد.
أراد جان إريك أولسون أن يكون أولوفسون شريكاً له في عملية السطو، وراهن على استحالة أن تخاطر الحكومة بقتل النساء الرهائن، إذا لم يحصل على مراده.
ولما كان القناصة يحومون حول مبنى المصرف، تراجع أولسون إلى داخل القبو برفقة رهائنه الثلاث، وترك الباب مفتوحاً قليلاً، بانتظار أن تلبي الشرطة مطالبه.
كانت كريستين إنمارك (23 عاماً) مقيّدة من يديها وقدميها، جنباً إلى جنب مع زميلتيها: إليزابيث أولدغرين (21 عاماً)، وبيرغيتا لوندبلاد (31 عاماً)، وهي الوحيدة من بين الرهائن التي كانت متزوجة ولديها أطفال.
في نهاية اليوم، وصلت طلبات جان إريك أولسون إلى Kreditbanken: المال، وسيارة فورد موستانغ زرقاء، وزميله السابق في السجن كلارك أولوفسون. ولكن الشرطة حجبت عنه مفتاح السيارة، فبقي أولسون عالقاً في القبو مع الرهائن.
بدا أولسون متوتراً، وبدأ يصرخ بوجه الرهائن والشرطة، مهدداً بقتل كل من يقاوم. وقد أطلق الرصاص بالفعل على شرطي، وأصابه في يده. لكن وصول أولوفسون بعد ظهر ذلك اليوم، أحضر معه بعض الهدوء.
هذا ما قاله أولوفسون نفسه عام 2019، ضمن بودكاست بعنوان Criminal، موضحاً: "عندما جئتُ، كانوا مرعوبين. وبعد 5 دقائق، صاروا هادئين. قلتُ لهم: "مهلاً، على رسلك، سوف نصلح هذا. وفككتُ وثاق النساء الثلاث، وبينما كنتُ أسير داخل البنك لمراقبة الأوضاع، عثرتُ على موظفٍ رابع يُدعى سفين سيفستروم مختبئاً في غرفة تخزين".
صاروا 4 رهائن إذاً..
اليوم الثاني.. لطف الخاطفين
قرر كلارك أولوفسون إحضار أحد هواتف المصرف، وأوصله إلى داخل القبو، كي يتمكن الرهائن من التحدث إلى عائلاتهم. وعندما لم تنجح بيرغيتا في الوصول إلى زوجها وأطفالها، بدأت بالبكاء. لكن خاطفها أولسون، لمس خدّها، وقال برفق: "حاولي مجدداً، لا تيأسي".
ورد ذلك في حوارٍ أجراه الصحفي الأمريكي دانييل لانغ، لصحيفة New Yorker، مع الرهائن والخاطفين. سلّط الحواء الضوء على معظم ما جرى خلال تلك الأيام الـ6، وكيف كانت طريقة تفاعل الخاطفين والمخطوفين مع الأحداث.
وكتب لانغ معلقاً بأن الرهائن كانوا يتحدثون عن حسن معاملتهم من قِبل خاطفهيم، أولسون وأولوفسون، "بل إنهم بدوا في لحظةٍ ما وكأنهم مدينون لخاطفيهم بحياتهم".
فبعد قضاء الليلة الأولى في القبو، شعرت إليزابيث أولدغرين (إحدى الرهائن) بالاختناق، لأنها تعاني من رهاب الأماكن المغلقة. قطع أولسون قطعةً كبيرة من حبل، وربطها حول عنقها وتركها تسير داخل المصرف على مسافة 30 قدماً، ثم لف سترته حول كتفيها عندما كانت ترتعش من البرد.
وقالت أولدغرين إنها شعرت، في ذلك الوقت، بأن السماح لها بالتجول يُعتبر لطفاً من خاطفها أولسون.
مع مضي اليوم الثاني، زاد إحباط أولسون بسبب المأزق الذي يواجهه. فأقنع الرهينة الرابعة، سفين سيفستروم، بأن يسمح له بإطلاق الرصاص على فخذه أمام الشرطة، كي يثبت لهم جدّيته.
وعده أولسون أن الطلقة سوف تخدشه فقط، تدخلت كريستين -الرهينة الثانية- مشجعةً سيفستروم: "إنها في الساق وحسب". اقتنع سيفستروم، وانتظر الإشارة كي يتخذ موقعه، لكن أولسون ألغى الخطة.
أخبر سيفستروم الصحفي دانيال لانغ أنه "ما زلت لا أعرف لماذا لم تأتِ الإشارة، لكن كل ما دار في ذهني لاحقاً هو فكرة اعتقادي بأن أولسون لطيف، لأنه كان سيطلق النار على ساقي وحسب"!
في غضون ذلك، كان اليوم الثاني هو الذي احتشد فيه المتفرجون بميدان نورمالمستورغ، خارج المصرف، وغطت فيه نشرات الأخبار الأحداث لحظة بلحظة، كما أجرت مقابلات مع الرهائن وخاطفيهم عن طريق الهاتف طيلة اليوم.
في حوالي الخامسة مساءً، طلب أولسون من كريستين التحدث مع رئيس الوزراء أولوف بالمه، وهذا ما حصل بالفعل، وقد بثت المحطات الإذاعية والتلفزيونية أجزاءً من المحادثة. طلبت كريستين من بالمه أن يسمح لأولسون بمغادرة البنك مع المال، وأعلنت أنها سوف تتطوع بالذهاب معه.
شكّل كلام كريستين مفاجأة للشعب والشرطة في آن. فقد قالت للرئيس: "أثق تماماً في كلارك (أولوفسون). لستُ يائسة. لم يفعلا أي شيء لنا، بل على العكس، كانا لطيفين للغاية. لكن أتعرف ما أخشاه يا أولوف؟ أن تقتحم الشرطة البنك، وتتسبب في موتنا".
رفض بالمه طلب كريستين، مدعياً أن "ترك أشخاص يخرجون على الطريق وفي حوزتهم أسلحة ومع أشخاص أبرياء، يمكن أن يعرض العامة للخطر". أما الشرطة، التي لم يكن لديها سابقة للاسترشاد بها في استجابتها للموقف، فقد كانت مرهقة تماماً.
فحتى اليوم الثاني، لم تكن الشرطة تعلم مع من تتعامل، ومن هو الخاطف. فقد نجح تنكر أولسون، لأن الشرطة لم تملك أدنى فكرة عن هويته، وانتهى بها الأمر بارتكاب خطأ في الخلط بينه وبين هارب آخر يعرفه أولوفسون، ويُدعى كاي هانسون.
حتى إن الشرطة استدعت شقيق هانسون المراهق، واسمه دان، للتفاهم مع الخاطف. لكن أولسون قابلهم بإطلاق الرصاص. وبعد أن طلبت من دان الاتصال بهاتف القبو، والتحدث مع من كانت تعتقد أنه أخوه، أغلق دان الخط وصاح في رجال الشرطة: "أيها الحمقى، أخطأتم في الشخص".
اليوم الثالث: صداقة الخاطف والمخطوف
بعد قضاء الليلة الثانية في قبو المصرف، حاولت الشرطة يوم السبت اللجوء إلى حلٍّ يمكنه أن يكون خطراً.
تسلل شرطي وأغلق باب القبو من الخارج، حابساً الرهائن في الداخل مع أولسون وأولوفسون. كان الباب المفتوح بمثابة شريان الحياة بالنسبة لمن في الداخل، فمن خلاله كانت الشرطة تعطيهم الطعام والشراب كي تبقيهم على قيد الحياة.
كما أن ذلك الباب كان بمثابة الأمل الضعيف الذي يملكه أولسون من أجل نجاح خطته، والهروب، لكن ذلك الأمل بدأ يتلاشى مع إغلاقه.
إضافةً إلى إغلاقها الباب، قطعت الشرطة الاتصال الهاتفي داخل القبو مع أي شخص سوى عناصرها. فقد خشيت من حصول أولسون على شهرةٍ واسعة مع وصول وسائل الإعلام، الأمر الذي قد يُعطيه منبراً لإيصال أفكاره، ما قد يخلق نوعاً من التعاطف معه.
مع احتواء عملية السطو نوعاً ما، أملت الشرطة أيضاً أن يشكّل جميع مَن في الداخل "رابط صداقة" مع الخاطف أولسون، ويمكن لذلك أن يمنعه من إلحاق الأذى بهم. هذا ما فكّر فيه الطبيب النفسي، نيلز بيجيروت، الذي استعانت به الشرطة لفهم عقلية الخاطف؛ والذي عاد وصاغ مصطلح "متلازمة ستوكهولم".
وهذا ما نجح في واقع الأمر، وأكّده أولسون في حديثه إلى New Yorker، حين قال إنه كان من الممكن أن يقتل جميع الرهائن في بداية عملية السطو، إلا أنه دُفع لتغيير رأيه مع مرور الوقت.
فقد كتب الصحفي دانيال لانغ مضيفاً: "كان أولسون يتحدث بشدة عن أن ذلك خطأ الرهائن، حين قال: لقد كانوا يقومون بكل شيء أطلبه منهم. ولولا ذلك، لما آل الحال لما أنا عليه الآن. لماذا لم يقم أحد منهم بمهاجمتي؟ لقد جعلوا من الصعب علي أن أقتلهم؟ كانوا يجبرونني على التعايش معهم يوماً بعد يوم. ولم يكن أمامنا مفر من التعرف على بعضنا البعض".
في كتابه Six Days in August، يروي المؤلف ديفيد كينغ كيف سحب جان إريك أولسون ثلاث ثمرات إجاص كانت متبقية من وجبةٍ سابقة، وقطع كل واحدة منها إلى نصفين، وأعطى كل شخص منهم حصته.
وفقاً لكينغ، فقد لاحظ الجميع أن أولسون يأخذ القطعة الأصغر.
المشانق في اليومين الرابع والخامس
يوم الأحد، قطعت أعمال حفر حالة الهدوء التي كانت تنعم بها المجموعة.
بدأ فريقٌ من العمال باختراق القبو من الأعلى، وقد أبلغت الشرطة أولسون أنها ستجعل الفتحة كبيرة بما يكفي كي يسلّم سلاحه. لكن بعد ساعات، اكتشف الرهائن أن السبب الحقيقي هو رمي القنابل المسيلة للدموع، لإجبار أولسون على الاستسلام.
رداً على ذلك، وضع أولسون الرهائن أسفل الفتحة، ووضع مشانق حول رقابهم، مع ربط الحبال إلى أعلى صف من صناديق الودائع الآمنة. وأبلغ الشرطة أنها في حال ألقت قنابل الغاز، فإن الرهائن سوف يفقدون وعيهم، وحينها ستتسبب في قتلهم.
من أجل التحايل على المشانق، بدأ العمال في حفر مزيدٍ من الثقوب بأجزاء أخرى من سقف القبو. حينها، أنزلت الشرطة دلواً عبر الفتحة يحتوي على شطائر، فكانت هذه الوجبة الأولى التي يحصل عليها الرهائن منذ أيام، ما منحهم راحة قصيرة من الوقوف مع المشانق.
عندما بدأوا يشعرون بالتعب، سمح لهم أولسون بالتناوب في الحصول على الراحة. لاحقاً، طلب سيفستروم من أولسون أن يقف بدلاً منهم جميعاً، لأنهم تعبوا. وهذا ما حصل.
اليوم السادس.. متلازمة ستوكهولم
بحلول يوم الثلاثاء، فتح الفريق التابع للشرطة 7 ثقوب في السقف، وبعد وقت قصير، بدأت القنابل المسيلة للدموع تمطر القبو. وما هي إلا دقائق حتى سمعت الشرطة أصواتاً تقول: "نحن نستسلم".
بعد فتح الباب، أمرت الشرطة الرهائن بالخروج أولاً، لكنهم رفضوا ذلك خوفاً من أن تقتل أولسون وأولوفسون، إذا ما تُركا وحدهما في القبو. احتضنت كريستين وزميلتها إليزابيث أولسون وقبلّاه، وصافحه سيفستروم. أما بيرغيتا، فطلبت منه أن يكتب إليها.
ثم خرج الخاطف في صحبة شريكه من قبو المصرف، واعتقلتهما الشرطة.
يُعزى الفضل إلى بييروت، الطبيب النفسي الذي استشارته الشرطة، في نحت مصطلح "متلازمة ستوكهولم" في وقتٍ لاحق من ذلك العام، من أجل وصف ظاهرة تطور رابطة عاطفية بين الأسرى -أو الرهائن- وخاطفهم.
صحيح أن عدداً من الجمعيات المهنية رفضت اعتباره تشخيصاً نفسياً، لكن مصطلح متلازمة ستوكهولم صار جزءاً من علم النفس منذ ذلك الحين، ويُحكى عنه في حالات الانتهاكات، لا سيما بالنسبة لأسرى الحرب.
وغالباً ما يجري ربط مصطلح "متلازمة ستوكهولم" بما حدث لباتي هيرست (Patty Hearst)، وهي ابنة أحد أثرياء كاليفورنيا كان قد اختطفها مسلحون ثوريون عام 1974، فتعاطفت معهم وشاركت معهم بإحدى عمليات السطو، قبل أن ينتهي بها الأمر في السجن.
إلا أن محامي الدفاع عن هيرست قال إنها قد خضعت لعملية غسيل دماغ، وإنها كانت تعاني مما يعرف بمتلازمة ستوكهولم، والتي "اصطلح عليها مؤخراً لتفسير المشاعر غير المنطقية التي يشعر بها المختطَفون تجاه مختطِفيهم".
وآخر القصص التي وُصفت بأنها تندرج تحت مفهوم متلازمة ستوكهولم، كانت حالة ناتاشا كامبوش التي اختُطفت وهي في الـ10 من عمرها واحتُجزت داخل قبو لـ8 سنوات. ونُقل أنها أجهشت بالبكاء عند سماعها خبر موت مختطِفها، وأشعلت شمعة حيث يرقد جسده.
بدورها، وفي مقابلةٍ أُجريت معها عام 2009 عبر راديو السويد، قالت كريستين -التي تركت وظيفتها في Kreditbanken وصارت معالجة نفسية- إنها لا توافق على مفهوم متلازمة ستوكهولم، وإن علاقة الرهائن مع أولسون كانت خوفاً على الذات، أكثر من كونها متلازمة.
وأوضحت: "أعتقد أن مصطلح متلازمة ستوكهولم هو طريقة أخرى للوم الضحية. من جهتي، كل الأشياء التي فعلتها كانت من أجل غريزة البقاء. أردتُ أن أنجو. ولا أعتقد أبداً أنه أمرٌ غريب للغاية".