لا تستغرب إذا سمعت أن هناك من هم في هذا العالم يعبدون البشر، ويقدسونهم لدرجة كبيرة، لأن هذا تماماً ما يحدث في نيبال، حيث تُعبد الفتيات الصغيرات اللواتي يستوفين شروطاً معينة، يتم تحديدها من طرف القديسين، وتخولهن ليكنّ الإلهة "كوماري"، والتي تعني باللغة النيبالية "العذراء".
إذ يتم اختيار الفتاة الإلهة الحية الوحيدة التي يعبدها الهندوس والبوذيون، ضمن مراسيم خاصة وسرية، تستمر لمدة 12 يوماً متواصلة، وبعد ذلك تصبح هذه الفتاة، التي غالباً ما يتراوح عمرها ما بين 3 أو 4 سنوات، ممنوعة من عيش حياتها الطبيعية، أو الذهاب إلى المدرسة، إلى أن تصل سن البلوغ.
وبعد أن تحيض الطفلة "الألهة كوماري"، تصبح غير مؤهلة لعبادتها، ليتم استبعادها، وتنظيم مراسم جديدة، لاختيار طفلة أخرى، تستمر في هذا المكانة لما يقارب 10 سنوات.
أساطير عن أصل الإلهة كوماري
حسب موقع "nepalsanctuarytreks"، فإن هناك العديد من الحكايات والأساطير المتعلقة بتاريخ وأصل الإلهة كوماري، إلا أن هناك حكايتين متقاربتين، وهما الأكثر انتشاراً بين الأشخاص الذين يؤمنون بالإلهة كوماري في نيبال.
وتقول الرواية الأولى، إن آخر ملوك أسرة "مالا" التي كانت تحكم نيبال قديماً، المسمى جايا براكاش مالا، كان دائماً ما تزوره امرأة جميلة في ساعات الليل المتأخرة، وهي إلهة تسمى "تاليجو"، وكانت تشترط عليه عدم إخبار أحد بلقاءاتهم.
في إحدى الأمسيات المصيرية، قامت زوجة الملك بتتبع زوجها الى غرفته الخاصة، ثم قامت بتفتيشها بشكل عنيف، معتقدة أنه يقوم بخيانتها، لتقوم الإلهة "تاليجو" بالمغادرة دون أن يراها أحد، ثم عادت بعد ذلك في حلم الملك جايا براكش، وقالت له إنها سوف تتجسد كإلهة حية في الأطفال بين مجتمع شاكيا وباجراتشاريا في مدينة راتناوالي الهندية.
ومن أجل تعويض غيابها، قام الملك جايا براكش بالبحث عن أطفال، كلهم من الإناث، بهم روح الإلهة تاليجو، ويمتازون بمعايير جمالية معينة، بها قرب من تلك التي كانت تعرف بها هذه الإلهة، وتلك التي يقع عليها الاختيار تكون هي "كوماري"، التي تتم عبادتها إلى أن تصل إلى سن البلوغ.
أما الرواية الثانية، ووفقاً للأسطورة، كانت الإلهة تاليجو تزور الملك تريلوكيا الذي كان يحكم البلاد قديماً، وكانت تناقش معه أمور البلاد وما تحتاجه للازدهار.
وفي إحدى الليالي، حاول هذا الملك التقرب من تاليجو، إلا أن هذا التصرف أثار حنقها وغضبها، ومنذ ذلك الوقت توقفت عن زيارته.
وبالرغم من طلبات الملك تريلوكيا المتكررة من أجل عودة تاليجو، من خلال الصلوات، إلا أنها كلها باءت بالفشل، إلى أن قررت في الأخير الظهور في جسد فتاة عذراء غير بالغة، ومن هنا بدأت قصة عبادة الإلهة "كوماري".
صوت البطة ورموش البقرة.. شروط اختيار "كوماري"
بالرغم من مرور سنين طويلة على ظهور الإلهة كوماري، وعبادتها، حسب اعتقاد الهندوس والبوذيين من أهل نيبال، فإن طقوس اختيار الفتاة "كوماري" ما زالت مستمرة إلى عصرنا الحالي.
إذ مباشرة بعد إعلان البحث عن فتاة صغيرة تمثل الإلهة الجديدة، تشرع العائلات في تقديم بناتهن لكهنة المعابد المخصصة لهذا الحدث، من أجل الخضوع لعدة اختبارات، ثم تظفر واحدة فقط بهذه المكانة.
ومن بين الشروط التي يتم من خلالها تحديد "كوماري"، أن تكون ذات ساقين شبيهين بالغزالة، ورموش كثيفة كالبقرة، ورنة صوت كالبطة، وصدر كالأسد، وعنق مثل صدفة المحار، ومن نفس برج الملك، ذات شعر أسود داكن وأملس، لم يسبق لها أن سالت دماؤها، سواء بسبب جروح أو خدوش.
كما يجب أن تكون الفتاة لا تخاف من الرجال المقنعين، حيث خلال عمليات الإنتقاء يظهر رجل مقنع يرقص على الدم أمام الفتيات المرشحات، واللواتي تظهر على وجوههن علامات الخوف، يتم استبعادهن من عملية الانتقاء.
ويأتي السبب وراء اختيار فتاة صغيرة، لم تصل سن البلوغ بعد، هو اعتقاد أن رحم المرأة هو أصل الحياة، وأنه يبدأ في التكون والتغيير مع مراحل تغير الفتاة، إلى أن تحيض.
كما أن الاختبارات التي تمر بها تظهر مدى قوتها وقدرتها على التحمل، لذلك فإن هذه الإلهة هي رمز للقوة والحماية، وتجسيد للنقاء بين الهندوس والبوذيين.
وفي حال تعرضت كوماري لأي جروح في جسدها، تسببت في فقدان ولو قطرة دم واحدة منها، فهذا الأمر يكون كفيلاً بإسقاط قوة الإلهة الممنوحة لها، وإبعادها عن المعابد، وذلك لأنها تصبح في هذه الحالة نجسة، وهذا هو الوصف الذي يتم إطلاقه على تلك التي ينزل منها دم الحيض لأول مرة.
هكذا تعيش الطفلة كوماري
بعد أن يتم اختيار الفتاة التي سوف تُعبد على أنها الإلهة كوماري ، تتغير حياة الفتاة تماماً، إذ إنها تغادر منزل عائلتها، للعيش متنقلة بين المعابد، 12 مرة في السنة، حسب تواريخ الأعياد الدينية.
وتُمنع الفتاة كوماري من دخول المدرسة، أو التنقل إلى أي مكان كيفما كان خارج المعابد، خصوصاً أنها تكون ممنوعة من أن تلمس قدماها الأرض، ويتم حملها باستمرار من طرف رجال مخصصين لهذه المهمة، في حال احتاجت قضاء حاجياتها الخاصة.
ونادراً ما تقوم عائلة الفتاة بزيارتها، إذ إن هذه العملية تحتاج إلى المرور من إجراءات رسمية، فيما يكون لها حق اللعب مع أطفال الشخص المسؤول عن رعايتها، ولا أحد غيرهم.
أما فيما يخص ملابسها، فإن كوماري تكون مجبرة على ارتداء اللون الأحمر بشكل دائم، مع وضع مكياج باللون الأحمر والأبيض على وجهها، ورسم عين النار على جبينها، مع رفع شعرها على شكل عقدة.
وقبل تنصيبها لتكون الإلهة كوماري، يتم تعريف الطفلة على الناس من خلال مسيرة طويلة، والتي تكون المرة الأخيرة التي تلمس فيها قدماها الأرض، قبل أن تصل سن البلوغ.
وخلال هذه المسيرة يقوم كل من رئيس الوزراء ورئيس البلاد بلمس قدميها وطلب البركة منها، قبل أن تتوجه إلى أول معبد.
زيارة الإلهة كوماري في المعابد للبركة
تتم زيارة الإلهة كوماري من طرف بقية الشعب، من خلال إلقاء نظرة عليها عبر نافذة فناء المعبد الذي توجد به، وذلك من أجل الحصول على بركتها، حسب اعتقادهم.
ويمكن أن يقع الاختيار على شخص واحد ليتمكن من زيارة "كوماري" في غرفتها، ويتم وصف هذا الشخص على أنه الأوفر حظاً، والحاصل على أكبر قدر من البركة.
وغالباً ما تتم زيارة هذه الطفلة من طرف الأشخاص الذين يعانون من مشاكل صحية، وغالباً ما تكون تكثر الزيارات من طرف النساء اللواتي يعانين مشاكل في الحيض.
كما أن حصة الأسد من لقاءات الإلهة كوماري تكون من نصيب الشخصيات رفيعة المستوى، سواء كانوا من أغنياء البلد أو السياسيين، وأثناء الزيارة، تتم مراقبة تصرفات الإلهة الحية عن كثب، لأن أفعالها يتم تفسيرها على أنها تنبؤ بحياة الشخص الذي يجلس أمامها.
ومن بين هذه التصرفات:
- البكاء أو الضحك بصوت عالٍ: مرض خطير أو الموت
- فرك العيون: الموت الوشيك
- الارتجاف: السجن
- انتقاء الطعام: خسائر مالية
مدنسة ومنبوذة.. هكذا تعيش الطفلة بعد انتهاء دورها كإلهة
بعد انتهاء دور الطفلة بأن تكون إلهة يتم عبادتها طوال سنوات عدة، تجد نفسها بين ليلة وضحاها مجبرة على العودة إلى الحياة العادية، واعتبارها مدنسة لأنها وصلت سن البلوغ.
ومن بين السلبيات التي تواجه هؤلاء الفتيات هي عدم قدرتهن، أو إيجادهن صعوبة كبيرة في المشي بطريقة عادية وسليمة من جديد، وذلك لأنهن يكن ممنوعات من المشي لما يقارب 10 سنوات.
كما أنهن يجدن مشاكل كبيرة في الاندماج من جديد في المجتمع، وعيش حياة طبيعية كبقية الأطفال في سنها.
وحسب بعض المصادر الغربية، فإن إسقاط لقب الإلهة كوماري عن الفتاة يجعلها مرفوضة بين أسرتها، التي تكون قد التقطها مرات معدودة فقط، الأمر الذي يجعلها تعيش حياة من التشرد، غير قادرة على إيجاد مأوى يحميها.
الشيء الذي جعل العديد من الجمعيات ونشطاء حقوق الإنسان وحقوق الطفل في نيبال تتحرك من أجل حماية حقوق الطفلات، سواء خلال فترة اختيارهن إلهة، أو بعد انتهاء مهمتهن.