الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، إذ إن بيئته العادية، والتي يسهل عليه العيش بها، هي تلك التي يوجد فيها عدد كبير من الأصدقاء، بدءاً من العائلة، وصولاً إلى الأصدقاء ومحيط العمل أو الدراسة.
إذ إنه في المجمل تكاد لا توجد لحظة في حياة الإنسان دون وجوده بين أشخاص آخرين، وتفاعله معهم، من خلال فتح أحاديث، والقيام بأنشطة متنوعة، الشيء الذي يجعل من السعادة في بعض الأحيان مرتبطة بالأشخاص والعلاقات مع الآخرين.
لكن في العالم الحديث، وخلال السنوات الأخيرة، أصبح انتشار العديد من المشاكل النفسية والبدنية يتزايد، مع زيادة رغبة الأشخاص في العزلة والوحدة، والابتعاد عن البشر بشكل عام.
وحسب عدة دراسات أُجريت خلال السنوات الـ15 الماضية، في عدة دول حول العالم، تبين أن أغلبية من يفضلون البقاء في عزلة هم أشخاص يعانون إدمان الوحدة، التي تؤدي بدورها إلى أمراض خطيرة ومزمنة قد تصل إلى السرطان.
الوحدة.. إدمان خطير في العصر الحديث
حسب ما نشرته مؤسسة البوابة الأمريكية، المختصة بالوقاية من الإدمان، فإنه وفق أبحاث حديثة، تبين أن 75% من الأمريكيين يعانون من الوحدة، وتشير تقارير حديثة لمجلة "Forbes" إلى أن عدد الأشخاص الذين يعانون من العزلة قد تضاعف 3 مرات أكثر، خلال العقود الأربعة الماضية.
وعند إدمان الوحدة والعزلة، والابتعاد عن الفضاءات التي يوجد بها عدد كبير من الأشخاص، يصبح الشخص الذي يعاني هذا النوع من الإدمان معرضاً لتعاطي المخدرات وشرب الكحول، رغبة منه في التداوي من المشاعر السيئة التي يشعر بها بسبب العزلة.
أسباب اختيار البعض الوحدة والعزلة
هناك عدة عوامل تؤدي إلى اختيار الأشخاص الوحدة والابتعاد عن بقية الناس، إذ إن الأسباب الاجتماعية هي التي تؤدي إلى اختيار الفرد العيش بهذه الطريقة.
ومن بين العوامل التي تؤدي إلى العزلة والوحدة الرفض المجتمعي، والتعرض للمضايقات من طرف الآخرين، كالتنمر، والتقليل من القدرات، والتعرض للشتائم بشكل مستمر.
إضافة إلى عيش العديد من المشاكل العاطفية، ونقص مشاعر الحب والاحتواء، الشيء الذي يتم اعتباره حافزاً قوياً من أجل اعتزال الناس بشكل كامل، والتقوقع بعيداً عنهم.
وفي المجمل، فإن الإنسان في حاجة ماسة إلى الشعور بالعواطف الإيجابية ومشاعر الحب، والتي يمكن وصفها بأنها من الأساسيات كالأكل والشرب والنوم، وعند غيابها تنشط أعضاء الجسم بشكل عكسي، لتتحول إلى ألم نفسي وجسدي، بعد اختيار العزلة والوحدة.
وحسب عدة مصادر، فإن هناك علاقة بين الاكتئاب والحزن واليأس بالوحدة، خصوصاً عندما يتحول الأمر من رغبة في البقاء وحيداً، إلى إدمان، وحالة مزمنة، يصبح الخروج منها يحتاج إلى علاج.
ما مدى شيوع إدمان الوحدة المزمنة؟
حسب دراسات أُجريت على الشعب الأمريكي، يعاني الأمريكيون من الشعور بالوحدة في الوقت الحالي أكثر من أي وقت مضى.
إذ في دراسة استقصائية حديثة، أفاد ما يقرب من 3 من كل 4 بالغين عن شعورهم العميق بالوحدة، ويرجع السبب في ذلك إلى التأثير العاطفي، بسبب غياب التقدير من الآخرين، وعدم الشعور بالأهمية بينهم.
ولهذه المشاعر تأثير لا يُصدَّق على الصحة الجسدية، فإذا كنت تتساءل "ما الذي يمكن أن يسببه الشعور بالوحدة؟" فاعلم أنه يمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة، أبرزها:
- ارتفاع ضغط الدم.
- مرض الشريان التاجي.
- ضعف جهاز المناعة.
- بعض أمراض السرطان.
وغالباً ما تسير المخدرات وإدمان الكحول والشعور بالوحدة جنباً إلى جنب، مما يعني أن أولئك الذين يعانون من هذا الشعور هم أكثر عُرضة للإصابة باضطراب تعاطي المخدرات.
أسباب ارتباط إدمان الوحدة بالمخدرات والكحول؟
يمكن أن تؤدي مشاعر العزلة أو الاكتئاب أو القلق إلى الإدمان، إذ يظن الشخص المنعزل أن الحل الوحيد من أجل تجاوز المشاعر السلبية، والمواقف الاجتماعية المؤذية هي استخدام المخدرات وشرب الكحول.
ويرجع السبب وراء هذا الاعتقاد إلى محاولة النسيان والتجاوز من خلال إذهاب العقل اللحظي، الذي تقدمه هذه المواد المخدرة، واستعمالها كبديل للعلاقات الشخصية الطبيعية.
ومن هنا تبدأ رحلة أخرى من الإدمان، التي تزيد الطين بلة، ولا تساعد أبداً في تجاوز الشعور بالوحدة، والإدمان عليها، من خلال الانزواء بشكل زائد أكثر من المعتاد.
إذ يتم تجاهل الحياة العادية، ورفض العودة إليها من جديد، واختيار الإدمان كطريقة للانسحاب، وتلبية الحاجيات الإنسانية.
عندما يصبح هذا الإدمان مزمن، يصبح من السهل أن ينخرط الإنسان في سلوكيات أسوأ، مما يؤثر بشكل أكبر على الصحة الجسدية والاجتماعية والعقلية، وزيادة فرص المرض بالأمراض التي تم ذكرها سابقاً.
كيف ترتبط الوحدة بالصحة العقلية؟
المرض العقلي وتعاطي المخدرات هما تشخيصان غالباً ما يسيران جنباً إلى جنب، حيث يؤدي أحدهما عادةً إلى تفاقم أعراض الآخر.
ووفقاً لدراسات مختلفة، فإن ما يقرب من 50% من الأشخاص الذين تم تشخيص إصابتهم بمرض عقلي يكونون قد عانوا أو يعانون أيضاً من اضطراب تعاطي المخدرات في مرحلة ما من حياتهم.
وفي الجهة المقابلة، وحسب هذه الإحصائيات، فقد تم تشخيص 50% من أولئك الذين لديهم إدمان على المخدرات والكحول لاحقاً بشكل ما من أشكال المشاكل العقلية.
وهنا تظهر هذه المشاكل العقلية بالوحدة والعزلة، إذ إن الشخص الذي يعاني من هذا النوع من المشاكل يفضل دائماً البقاء وحيداً، بسبب الأعراض التي يعاني منها، لذا فإن البحث عن الرفقة أمر غير وارد تماماً.
وفي حالات أخرى، يكون المريض قد اختار العزلة خوفاً من النظرة التي يمكن أن يتلقاها بسبب مرضه، والتي يتم الترويج لها مجتمعياً.
إذ يساهم هذا الموقف في الشعور بالوحدة، بين من يعانون مشاكل عقلية، ومشاكل الإدمان، ومشاكل نفسية، وذلك لأنها الخيار الأمثل بالنسبة لهم لتفادي أحكام الأشخاص الآخرين.
وغالباً ما تسير الوحدة والصحة العقلية والإدمان جنباً إلى جنب، ولم يبدأ الأطباء في إدراك المخاطر والاهتمام بها إلا في السنوات الأخيرة.
الشعور بالوحدة ومشاكل نفسية أخرى
أصبح إدمان الوحدة واحداً من بين الأمراض التي أصبحت تؤثر على الصحة العامة خلال السنوات الأخيرة، في العصر الحديث.
إذ يصعب معالجتها بشكل سهل، أو بطريقة واحدة معروفة للأطباء، وذلك لأن الأسباب تختلف من شخص لآخر، كما أن تأثيرها يتراوح بين البسيط والقوي.
خصوصاً أن التغييرات الحياتية والقدرات الجسدية وبيئات العمل والظروف العقلية والأمراض الجسدية والإدمان، تعلب دوراً في مدى قوة إدمان الوحدة، ودرجة خطورته.
وغالباً ما تكون الوحدة واحدة من أولى العلامات التحذيرية لوجود مشكلات أخرى في حياة الشخص الذي يختار هذا السلوك، والذي تم تشخيصه في بعض الدراسات على أنه شبيه بخطورة تدخين علبة ونصف من السجائر في اليوم.
إذ إن أولئك الذين يعانون من هذا الشعور بانتظام هم أكثر عرضة بنسبة 50% للوفاة المبكرة أكثر من الأشخاص الآخرين، بسبب صعوبة تحمل الإجهاد والمشاكل الصحية التي ينتج عنها إدمان العزلة.
طرق التعافي من إدمان الوحدة
من بين أكثر الطرق التي تساعد في التغلب على إدمان الوحدة، معالجة الإدمانات الأخرى، من خلال الدخول في برنامج تعافى من الإدمان، والذي يساعد بدوره في الانخراط بين الناس، الذين غالباً ما يعانون من نفس المشكل.
كما يمكن خلق شبكة من الأشخاص المتفهمين للوضع الصحي والنفسي، والذين يساعدون في توفير نشاطات مختلفة تعيد العلاقة مع المجتمع بشكل صحيح.
يمكن كذلك حضور لقاءات واجتماعات وندوات لها علاقة بالاهتمام الخاص للشخص الذي يعاني من إدمان الوحدة، إذ إن فضاءات مماثلة ستساعده في لقاء أشخاص يتقاسمون معه نفس الاهتمامات والأفكار.
ممارسة بعض أنواع الرياضة، من بينها التأمل واليوغا، التي تعمل على تصفية الذهن والفكر، إضافة إلى الانخراط في الأنشطة الدينية المختلفة، والالتزام بالصلاة.
كما يمكن المشاركة في ورشات خاصة بالرقص، أو الرسم، والأعمال اليدوية المختلفة، والتي تساعد على التركيز في شيء مفيد يزيد من الراحة النفسية.