يطول الحديث عن إعلانات السجائر؛ لكن في الحديث عن تاريخ التبغ، يُقال إن أول استهلاكٍ له بدأ خلال القرن الأول قبل الميلاد، لدى شعوب المايا في أمريكا الوسطى والجنوبية. وقد اعتَبرت هذه الشعوب التبغ نباتاً مقدّساً، يتواصل به السحرة مع الآلهة.
لكن وفق دراسةٍ نُشرت أواخر العام 2021، وجد علماء الآثار أدلة جديدة تشير إلى أن البشر مضغوا التبغ منذ أكثر من 12 ألف عام، أي أقدم بـ9 آلاف عام مما كان يعتقده العلماء في السابق.
وأن التبغ، الذي يُعدّ الحشوة الأساسية للسجائر، هو في الأساس أحد مشتقات نبتة "النيكوتينا". وقد دخن السكان الأصليون في أمريكا الشمالية والجنوبية النبتة قبل آلاف السنين.
غالباً ما تم استخدام التبغ في المناسبات الدينية والاحتفالات الخاصة، كما استخدمته بعض القبائل كدواءٍ لعلاج آلام الأسنان ورفع نسبة الخصوبة، من خلال شربه وتدخينه ومضغه ومصّه أيضاً.
أقدم سجلّ معروف لاستخدام التبغ يُشير إلى أنه تم تدخينه بواسطة الغليون (البايب) واللف اليدوي، حتى تطور أساليب الاستهلاك واختراع ماكينة لف السجائر نحو عام 1880، حين تحوّل التبغ إلى صناعة عملاقة.
كان التبغ رمزاً ثقافياً واجتماعياً وعادةً أرستقراطية حتى القرن الـ20، حين اتجهت الشركات الأمريكية لترويجه وتوسيع سوقه. فاستهدفت الجنود في الحرب العالمية الثانية بملايين السجائر المجانية، وبعد عودتهم منتصرين، كان معظمهم قد صار مدمناً للتدخين.
تسويق التدخين عبر إعلانات السجائر الخبيثة
تاريخ من الدعاية والدعاية المضادة، رافقتها حربٌ إعلامية شديدة، دارت رحاها بين شركات تصنيع التبغ والمنظمات الصحية. وفي حين كانت الشركات تحاول نشر ثقافة التدخين حول العالم، سعت المنظمات الصحية إلى تضييق الخناق عليهم.
سعت شركات التبغ منذ البداية لإطلاق حملاتٍ ترويجية غريبة لعلاماتها التجارية، مستعينةً بشعارات مخادعة معظم الأحيان، خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي حين كان الوعي بأخطار التدخين شبه غائب؛ والأمثلة كثيرة على ذلك.
فقد روّجت شركة رينولدز للتبغ لعلامتها التجارية كاميل (Camel)، عبر الادعاء بأنها سجائر موصوفة طبياً. فرفعت الحملة الإعلانية شعارات مثل "غالبية الأطباء يدخنون كاميل"، و"كاميل، ما يطلبه الأطباء".
استمرت الحملة على مدى 8 سنوات منذ العام 1946، وكانت تُعرض عبر شاشات التلفزة، وفي الجرائد اليومية، وحتى مجلات الجمعية الطبية الأمريكية.
والمريب في الأمر أن شركة رينولدز ادعت أن حملتها الإعلانية تلك استندت إلى مسحٍ شمل أكثر من 100 ألف طبيب، لكن بالطبع فإن منهجية هذا البحث وتفاصيله لم تُنشر أبداً، لكن الشعارات اشتهرت وارتبطت بعقول الناس.
لاحقاً، ولما انكشفت "خدعة الأطباء"، عمدت شركات التدخين بعد ذلك إلى صناعة "رمز" يمكن من خلاله التسويق لمنتجاتها. ولعلّ أبرز مثالٍ على ذلك شركة "فيليب موريس" التي صنعت شخصية راعي بقر شاب، عُرف باسم "رجل مارلبورو"، في إعلانات السجائر الخاصة بمارلبورو.
وقد بقيت هذه الصورة أيقونةً في عالم إعلانات السجائر طيلة نصف قرن، عبر التركيز على الرجل صاحب البنية القوية والملامح الذكورية الحادة، في محاولةٍ لربط السجائر بالقوة والفحولة في أذهان الجمهور.
بالتزامن مع تلك الصورة، حاولت شركات سجائر أخرى ربط التدخين بالهدوء والمزاج الجيد، مثل سجائر "لاكي سترايك" الشهيرة. ففي إحدى حملاتها الإعلانية عام 1935، يظهر زوجان يستمتعان بالتدخين مع شعار "أنا صديقتك المفضلة، أنا ضربة حظك". كما تروج الدعاية لنعومة التبغ وعدم أذية الحلق.
في مصر مثلاً، اتخذت سجائر هوليود -وهي الأشهر بين أنواع السجائر القديمة في مصر- شعاراً فريداً من نوعه يقول "دائماً طازجة لأنها مصنوعة بمصر"، مع الإشارة إلى أن إعلاناتها كانت الأشهر في خمسينيات القرن الماضي.
ومن جهتها، كانت سجائر "بلايرز" تركز في إعلاناتها على صفاء الذهن الذي تمنحه السيجارة، وتربطها بالمستوى الاجتماعي الرفيع لمدخنيها، مع شعار "قيمة السيجارة في دخانها".
حِيَل شركات السجائر لجذب النساء
في كتابه "إعلانات الكحول والتبغ في القرن العشرين"، يقول جيم هايمان إن "الجانب الصحي السلبي للتدخين لم يكن موجوداً أبداً، بل كان التدخين يُعتبر إيجابياً جداً. فكانوا يروجون للمزايا الصحية للتدخين، من دون أي إشارة إلى الصحة، حتى ستينيات القرن الماضي".
بقيت شركات السجائر تستهدف الرجال في الترويج لمنتجاتها طوال سنوات، منذ بداية القرن الماضي، لكنها حين رغبت في توسيع قاعدتها الجماهيرية، فقد حان وقت التوجه إلى النساء.
ولأن السجائر ارتبطت في الأذهان بالرجولة، فكان عليها اتباع وسائل أكثر ذكاء وكسر التقاليد، بهدف الترويج لتدخين السيدات.
تركزت الخدعة الأولى في إعلانات السجائر على مسألة خفض الوزن؛ فقد زادت مبيعات "لاكي سترايك" 300%، حين اقتحمت مع بداية عشرينيات القرن الماضي عالم النساء، وأطلقت شعار "الوصول إلى لاكي بدلاً من الحلويات، الطريق الأسهل لعدم زيادة الوزن".
وبالتزامن مع صعود الحركات النسوية، تركزت الخدعة الثانية في إعلانات السجائر على شعار "أنت حرة". ففي العام 1929 نظمت الشركة الأميركية للتبغ مسيرة نسائية تحت عنوان "مشاعل الحرية" في عيد الفصح بأكبر شوارع نيويورك.
ومن خلالها، تحوّل مفهوم التدخين من المحرمات المجتمعية إلى الترويج للمساواة وتحرير المرأة. فقد دعت المسيرة جميع النساء إلى إشعال السجائر دليلاً على تحررهن من التقاليد والقيود المجتمعية.
ولأنه لا يمكن خسارة جمهورها الأصلي من الرجال، فقد كان الوقت مناسباً للفصل بين الجنسين في التدخين، لتبدأ شركات التبغ بإنتاج السجائر الرفيعة في عبوات أنيقة، بنصف حجم العبوات الرجالية، تتناسب مع حجم حقائب اليد النسائية الصغيرة.
لكن مع دخول التشريعات التي تحظر الدعاية المباشرة للسجائر، وتضيّق الخناق بشكلٍ كبير على إعلانات السجائر، حيز التنفيذ؛ لجأت الشركات إلى أساليب أخرى "أكثر خبثاً".
ففي التسعينيات، قدمت شركات التبغ شخصية "جو كاميل" الكرتونية في محاولة لجذب الأطفال إلى عالم التدخين، وهي الممارسة التي تم حظرها في وقتها. لكن الشركات استمرت في رعاية الأحداث الرياضية الأكثر شعبية، كما حاولت الدخول إلى عقول المراهقين من بوابة ألعاب الفيديو.
وتشير الإحصائيات إلى أن حوالي 42% من جميع ألعاب الفيديو تحتوي على صور للتبغ ومنتجات السجائر، 8% منها فقط تحتوي على تحذيراتٍ صحية ضد التدخين.
كيف بدأت "الحرب" على إعلانات السجائر؟
خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان النقاش محتدماً داخل المجتمع العلمي وفي أوساط المشرعين حول أضرار التبغ.
وفي العام 1950 نشر كلاً من إرنست وندر وإيفارتس غراهام دراسةً موسعة -كانت الأكبر حجماً في ذلك الوقت- ربطت بين التدخين المفرط والإصابة بسرطان الرئة.
أحدثت الدراسة خلافاً كبيراً مع الشركات المصنعة للتبغ، لتقوم هيئة الصحة العامة الأمريكية في يونيو/حزيران 1956 بتشكيل لجنة علمية تتولى دراسة المسألة. وقد خلصت إلى أن "هناك بالفعل علاقة سببية بين التدخين المفرط للسجائر، والإصابة بسرطان الرئة".
فكانت هذه أولى الخطوات التحذيرية من مخاطر التدخين، وتأثيره على صحة الإنسان.
لاحقاً في العام 1964، أصدر الجراح العام لهيئة الصحة العامة الأمريكية (لوثر تيري) تقريراً -وُصف بـ"التاريخي"- ربط فيه بين تدخين السجائر والعديد من الأمراض، بما في ذلك سرطان الرئة وأمراض القلب.
حدد التقرير متوسط خطر الإصابة بسرطان الرئة لدى المدخنين، بزيادة تسعة إلى عشرة أضعاف، مقارنةً بغير المدخنين. كما خلُص إلى أن التبغ يزيد من معدلات الوفاة بنسبة 70%، وأن التدخين أثناء الحمل يضرّ بالجنين.
حاولت شركات التبغ -وفي مقدمتها "فيليب موريس"- مواجهة ذلك التقرير والتشكيك فيه، معتبرةً أن المسألة تحتاج إلى المزيد من الأبحاث. لكن المشرعين قرروا سنّ أول قانون يُلزم شركات التبغ بوضع تحذير على علب السجائر، يقول: "قد يكون تدخين السجائر خطراً على صحتك"، بخطٍ صغير على أحد جوانب علبة السجائر.
في العام 1969 وقع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون على قانون يحظر الإعلان عن السجائر على التلفزيون والراديو، مع قرارٍ يُجبر شركات التبغ على وضع ملصقٍ تحذيري على كل عبوة سجائر، يقول: "قرر الجراح العام أن تدخين السجائر يشكل خطراً عليك".
وفي عام 1984، سنّ الكونغرس الأمريكي قانوناً يُجبر شركات التبغ على وضع 4 نصوصٍ تحذيرية على جميع علب السجائر، تظهر على جانب العبوات في تبايناتٍ مختلفة، ولا تزال هذه التعليمات سارية حتى اليوم.
مكافحة التدخين مهمة عالمية
توسع نطاق التحذيرات الصحية من حيث المساحة المطلوبة على علبة السجائر، كما توسعت تلك السياسات جغرافياً، لتشمل أغلبية دول العالم.
في عام 2001، فرض الاتحاد الأوروبي على الدول الأعضاء في المفوضية الأوروبية وضع تحذيرات نصية تغطي ما لا يقل عن 30% من الغلاف الأمامي، و40% من الغلاف الخلفي لعلبة السجائر، بالإضافة إلى مجموعة من 42 تحذيراً تصويرياً اختيارياً.
كما حظر على شركات التبغ استخدام مصطلحات "مخففة" توحي للمستهلكين أنها توفر سجائر "أفضل" أو "أكثر صحية" من غيرها. فمنعت مصطلحات مثل "خفيف" (Light)، وأجبرت الشركات على كتابة أرقام انبعاثات القطران والنيكوتين وأول أكسيد الكربون على جانب العبوة.
كانت كندا أول الدول التي تطبق تلك السياسات على شركات التبغ، فقد غطت التحذيرات الصحية والتصويرية نصف حجم الغلاف الأمامي والخلفي للعبوات.
في عام 2003، أصدرت منظمة الصحة العالمية ما يُعرف بـ"الاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ"، التي وقعت عليها 18 دولة حتى الآن، وتُلزم جميع الأطراف بما يلي:
- حماية تدابير الصحة العامة من المصالح التجارية لصناعة التبغ
- حماية جميع الأشخاص من التعرض لدخان التبغ في جميع الأماكن العامة، وأماكن العمل المغلقة، وفي جميع وسائل النقل العام
- حظر أو تقييد الإعلان عن التبغ، والترويج له، ورعايته
- وضع تحذيرات صحية مصورة كبيرة على منتجات التبغ، وحظر استخدام ملصقات وعبوات زائفة ومضللة، قد توحي بأن أحد منتجات التبغ أقل ضرراً من منتجٍ آخر
- النظر في التدابير السعرية والضريبية لتقليل الطلب على التبغ
توالى تطبيق الدول لهذه التحذيرات، كما توسعت المساحة التي يجب أن يشغلها التحذير الصحي، لتشمل حالياً 65% من حجم علبة السجائر، في الأمام والخلف؛ وإن كانت بعض الدول تفرض على شركات التبغ مساحات أكبر من ذلك.
فتركيا مثلاً فرضت زيادة في حجم التحذير المصوَّر يصل إلى 92.5% (85% للواجهة و100% للظهر). كما فرضت دول أخرى، مثل أوروجواي، نظام التغليف بلون وتصميم موحد لجميع الشركات.
أهمية الشعارات والصور التحذيرية على علب السجائر
برأي الكثير من الباحثين، تكتسب الشعارات والصور التحذيرية على علب السجائر أهمية كبيرة. فهي تعتبر وسيلة منخفضة التكلفة، لاسيما أن وزارات الصحة هي التي تحدد محتوى التحذيرات، لكن شركات التبغ هي مَن تدفع التكلفة.
علاوةً على ذلك، فإن الشعارات والصور التحذيرية على علب السجائر تصل إلى كل مدخن وغير مدخن، وواضحة لكن مَن يحيط بالمستهلكين، مثل الأسرة والأصدقاء وزملاء العمل؛ عدا عن أن الصور التحذيرية على علب السجائر تنجح في الوصول إلى الأشخاص الذين لم يتعلموا القراءة والكتابة، ويمكنها رغم ذلك التأثير عليهم.
تزداد فعالية هذه التحذيرات كلما احتوت على صور "مؤلمة" وحقيقية، وكلما كانت الصور التحذيرية تغطي مساحة أكبر على واجهة علبة السجائر. ومن شأن ذلك تقويض استخدام صناعة العبوات كوسيلة ترويجية، وتقليل إغراء منتجات التبغ.
ونظراً لتأثيرها الكبير، فإن شركات التبغ تعارض باستمرار الصور التحذيرية على علب السجائر، خصوصاً ذات الحجم الكبير، لإدراكها الخطر الذي تشكله على نسبة مبيعاتها كما أن الصور التحذيرية الكبيرة تعيق شركات التبغ من استغلال تلك المساحة للترويج لعلامتها التجارية.
في حوار لها مع Euronews، تشرح الكاتبة الإسبانية باولا سيندين الأثر الذي تركته تلك الصور التحذيرية على علب السجائر في نفسها، قائلة إنها تثير في نفسها النفور من التدخين.
وتضيف: "حتى أني عندما أذهب لشراء علبة سجائر، فإني أحاول أن أختار علبة تحمل صورة أقل تنفيراً. فحين أشتري بعض العلب التي تحمل صوراً بشعة لآثار التدخين، فإني في الغالب لا استمتع بتلك العلبة، وفي مرات عدة أتخلص منها قبل أن استهلك جميع السجائر فيها".
وتضيف: "أستطيع أن أقول إن تلك التحذيرات، إن لم تدفعني إلى التوقف نهائياً عن التدخين، فإنها على الأقل، دفعتني للتخفيف منه إلى حدود معقولة. وأتمنى أن يأتي سريعاً اليوم الذي سأقلع فيه نهائياً عن التدخين".
بالنسبة إلى الأرقام، فقد كشفت دراسة أمريكية حديثة أن الصور التحذيرية على علب السجائر تساعد الأشخاص على إعادة النظر في المخاطر الصحية للتدخين.
وفي دراستهم التي نُشرت في مجلة Plos One عام 2015، أوضح الباحثون في جامعة ولاية أوهايو أن الصور التحذيرية على علب السجائر تسبب مشاعر أكثر سلبية تجاه التدخين، من التحذيرات النصية فقط.
وتوصل الباحثون لهذا الاستنتاج بعد متابعة 244 شخصاً، متوسط أعمارهم 34، ممن يدخنون بين 5 إلى 40 سيجارة يومياً.
وخلال فترة المتابعة التي استمرت 4 أسابيع، استخدم مجموعة من الأشخاص سجائرهم المفضلة بعد تعديل شكل العبوة من الخارج، ووضع الرسوم والتحذيرات المصورة، لردع المدخنين.
في حين استخدمت مجموعة أخرى سجائر مغلفة، تضمنت عبارات نصية فقط، تحذر من أخطار التدخين، مثل "السجائر تسبب أمراض الرئة القاتلة".
ووجد الباحثون أن الأشخاص الذين استخدموا علب سجائر عليها صوراً تحذيرية لأخطار التدخين، كانوا أكثر قراءة واطلاعاً للمعلومات التي ترصد أخطار التدخين. وقالوا إن هذه العبوة جعلتهم يشعرون أن حالتهم ستظل سيئة مع التدخين، وأنهم يفكرون فى الإقلاع، بالمقارنة مع من استخدموا علب السجائر المدوّن عليها تحذيرات نصية فقط.