بعد أحداث الزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا، ومات فيه ما يزيد عن 40 ألف شخص، فيما أصيب عشرات الآلاف الآخرون، عاش كثيرون حالةً كبيرةً من الحزن، بالرغم من وجودهم بعيداً عن مركز الأحداث، خصوصاً بعد متابعتهم الأخبار المتعلقة بالزلزال بشكل يومي.
مشاعر الحزن هذه لها تأثير كبير على الدماغ، لأنها تعمل على إثارة مركز الدماغ المسؤول عن العواطف، ما يتسبب في إعطاء إشارات للجسم، تجعله في حالة انتباه، الشيء الذي يتسبب في ظهور عدة آثار أخرى، من بينها تسارُع دقات القلب، وتزايُد وتيرة التنفس.
وهناك الكثير من مشاعر الحزن الأخرى التي يعيشها الإنسان، سواء أكانت وفاة شخص عزيز، أو الطلاق، أو خسارة وظيفة، أو الدخول في شجار، وكلها مؤثرة بطريقة أو بأخرى على الدماغ، وهنا يصبح السؤال المطروح: ما الذي يحدُث على وجه التحديد لدماغه؟
ردة فعل الدماغ مع الصدمات العاطفية
حسب تصريح ليزا شولمان، اختصاصية الأعصاب بكلية الطب في جامعة ميريلاند لموقع "Live Science"، تقول إن عقولنا تتصور أن الخسارة المؤلمة تمثل تهديداً وجودياً، كما أن أدمغتنا تطورت للمحافظة على البقاء، لذلك فإن أي شيء تستقبله تعتبره تهديداً، الأمر الذي يحفز ردة فعل هائلة، تُترجم آثارها بكثير من مناطق الجسم، وذلك لأن الصدمة العاطفية لها تأثير مشابه للصدمة الجسدية.
وتضيف ليزا أن الدماغ يعطي ردة فعل للتهديدات والتهديدات المتصوَّرة مهما كانت مختلفة، ويتفاعل معها بالطريقة نفسها، مشيرة إلى أن مركز الدماغ المسؤول عن العواطف (اللوزة الموجودة داخل الجزء البدائي من الدماغ)، يفتش دائماً عن التهديدات، وبعد الشعور بها يجعل الجسد بأكمله في حالة انتباه، وتترجم هذه الحالة على شكل تسارع بنبضات القلب، وزيادة وتيرة التنفس، وزيادة تدفق الدم إلى العضلات، وهذه الإشارات كلها نوع من الاستجابة للحالة النفسية.
لكنها توضح أن هذا ليس حدثاً قائماً بذاته عندما يتعلق الأمر بالحزن، بدلاً من ذلك، فإنه مع مرور الأيام والأسابيع والشهور يكون هناك نوع من التذكير من أجل تحفيز الاستجابة، ونتيجة لذلك تصبح اللوزة حساسة على نحو متزايد ويقِظة على بشكل مفرط، ما يجعل الدماغ يفعل آليات الدفاع النفسية مثل الإنكار أو الانفصال.
تأثير وفاة المقربين على الدماغ
تشير ماري فرانسيس أوكونور، أستاذة علم النفس المساعدة بجامعة أريزونا الأمريكية، إلى وجود عنصر تطويري قوي حول كيفية وسبب تحملنا للحزن، لأنه عبارة عن استجابة.
إذ إن هناك مواد كيميائية عصبية في الدماغ، تساعدنا في الحفاظ على روابطنا مع عائلاتنا، والأشخاص المقربين منا، ما يُحفز الشعور بالاشتياق في حال ابتعدوا عنا، وتكافئنا عندما نجتمع بهم من جديد.
وفي حالة الموت فإن الدماغ بكل بساطة يفترض أن الشخص المتوفى قد غادرنا لفترة محددة فقط، وسوف يعود بعد ذلك، لذلك فهو يكون في حالة بحث دائم عنه، وهذا ما يفسر شعور البعض بالاشتياق، أو الإحساس بأن الشخص الذي مات سيعود يوماً ما في أية لحظة.
ضرورة التصالح مع الحزن
الشعور بالحزن بعد التعرض للصدمات بمختلف أنواعها له تأثير عميق على وظيفة الدماغ، بسبب الضغط المتكرر عليه، والمرونة العصبية التي يعيشها في تلك الفترة، ما يعيد تصميم استجابة الدماغ للتجربة والتغيّرات، حسب البيئة التي يتواجد فيها الشخص.
إذ تقول ليزا شولمان إنه بمرور الوقت ينتج عن آليات استجابة الدماغ تقوية مركز الخوف البدائي للدماغ، وإضعاف الدماغ المتطور (القشرة المخية).
وهذه التغيّرات في غالبية الأحيان تدوم لفترات طويلة، ولكن يمكن إبطال أثرها عن طريق العلاج ونمو ما بعد الصدمة، وهي تقنية تُمكِّن الأفراد من العثور على طريقة للحصول على معنى جديد من تجاربهم، من أجل عيش حياتهم بطريقة مختلفة عما قبل الصدمة، إلا أن فترة التعافي تختلف من شخص لآخر، حسب القدرة على الاستجابة.
ومن أجل تجاوز حالة الحزن يمكن اعتباره نوعاً من أنواع التعلم، وأن هذا التعلم له دور في كل مِن التصالح مع الحزن والقدرة على أداء الوظائف اليومية.
لأن الدماغ عندما يكون في حالة شتات لا يستطيع القيام بمهامه البسيطة في الحياة، الشيء الذي يجعل من الصعب الوصول إلى مرحلة التعامل مع المهام الصعبة بمختلف أنواعها.
الحزن عبارة عن حالة معقدة، تتضمن تغيّرات نفسية وسلوكية وإدراكية وعاطفية، ما يعني أن كثيراً من مناطق الدماغ تشترك في توليد ردة فعل الحزن، وهذا ما تشير إليه بحوث العلوم العصبية المتعلقة بالحزن، التي لا تزال في مراحلها الأولى.
أبحاث لفهم علاقة الحزن بالدماغ
هناك حقيقة تقول إنه ربما تكون هناك مناطق مختلفة بالدماغ تُظهر تغيّرات استناداً إلى مرحلة الحزن وأعراضه وشدته، على سبيل المثال عندما يتذكر شخصٌ ما شخصاً متوفى، ويحاول معالجة العواطف استناداً إلى الفقد، تنشط القشرة الحزامية الخلفية، وقشرة الفص الجبهي الإنسي. وفي حالات الحزن المعقد، عندما يشتاق الشخص إلى المتوفى قد تنشط النواة المتكئة، التي تتوسط المعالجة العاطفية والتحفيزية.
لكن مع ذلك مازالت هناك العديد من الأبحاث التي ستُجرى من أجل الفهم المعمق للحزن، وعلاقته بالدماغ، والإشارات التي يرسلها إلى الجسد.
ومن أجل تحقيق ذلك يتم متابعة الشخص نفسه، وإخضاعه لتصوير الدماغ العصبي المقطعي على مدى عدة شهور، من أجل مشاهدة التغيرات في طريقة أداء الدماغ وظائفَه.