مع بداية العام الدراسي الجديد، تزداد معاناة أهالي وذوي مرض التوحد في الأردن، وأولئك الذين لديهم صعوبات في التعلم، بسبب عدم قدرتهم على توفير مقعد دراسي لأبنائهم في المدارس.
يأتي هذا كنتيجة لعدم توافر بنية تحتية حقيقية لاستقبال من يعانون من التوحد والإعاقات الجسدية والعقلية والذهنية، رغم ارتفاع نسبتهم في المجتمع الأردني، كما تشير الإحصائيات.
معاناة مستمرة
تقول أم زياد العمري، وهي والدة الطفلة حنان البالغة من العمر عشرة أعوام والتي تعاني من مرض التوحد منذ عدة سنوات، إنها لم تكن لديها المعرفة ولا الإدراك بمرض التوحد، مما جعلها تكتشف حالة ابنتها في وقت متأخر عندما كانت تبلغ من العمر ست سنوات.
حدث هذا عندما أرادت الأم تسجيل ابنتها في المرحلة الابتدائية، فلاحظت مديرة المدرسة نشاطاً غريباً لدى الفتاة، وأخبرت والدتها أنّ ابنتها تعاني من فرط حركة وتشتت شديد في الانتباه وقلة في التركيز، الأمر الذي جعل المدرسة ترفض استقبالها.
تشير أم زياد في حديثها مع "عربي بوست"، إلى أنها اضطرت إلى إخراجها من المدرسة وإلحاقها بـ"مركز إربد للتربية الخاصة والنطق"، بواقع ثلاث جلسات كل أسبوع بتكلفة قدرها 170 ديناراً أردنياً شهرياً (240 دولاراً)، وهذا يعدّ مبلغاً مرتفعاً مقارنة مع حجم دخل أسرتها المتدني الذي لا يتجاوز الـ400 ديناراً (570 دولاراً).
لم تتلقّ الطفلة الدعم والرعاية الكافية التي تؤهلها لأن تصبح طفلة طبيعية كباقي أقرانها في وقت قصير، وهو ما مثل عبئاً مادياً على الأسرة، التي أجبرت بعد أقل من ستة شهور على إخراجها من المركز بسبب التكلفة العالية، لتنقطع عن العلاج لمدة ثلاث سنوات.
لكن الأمل لم ينقطع عند أم زياد بعد ثلاث سنوات، فقد استطاعت توفير مبلغ من المال لعلاج ابنتها حنان من جديد والعودة بها بعد للمركز ذاته، حيث لا تزال تخضع لجلسات دورية بشكل أسبوعي. كل هذا في سبيل أن تلتحق ابنتها من جديد بالمدرسة كباقي أقرانها، في وقت لا تتوافر فيه في المدارس البيئة المناسبة لاستقبالها.
قانون على الورق
يحظر قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في الأردن استبعاد الشخص من أي مؤسسة تعليمية على أساس الإعاقة أو بسببها، وأنّه إذا تعذر التحاق الشخص ذي الإعاقة بالمؤسسة التعليمية لعدم توافر الترتيبات التيسيرية المعقولة أو الأشكال الميسرة أو إمكانية الوصول، فعلى وزارة التربية والتعليم إيجاد البدائل المناسبة، بما في ذلك ضمان التحاق الشخص بمؤسسة تعليمية أخرى.
ورغم ذلك، لا تزال المدارس الأردنية تفتقر إلى البنية الأساسية، وعدم قدرتها على استقبال أي حالات متعلقة بالإعاقات.
وفقاً للمجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، يشكل ذوو الإعاقة عموماً في الأردن ما نسبته 11% من مجموع السكان، بما مجموعه مليون و200 ألف نسمة. من بين هؤلاء 400 ألف شخص ممن هم في سن التعليم. إلا أن عدد الطلاب ممن هم على مقاعد الدراسة من هذه الفئة يقدر بحوالي 23 ألفاً، أي بنسبة 5% من عدد الطلاب.
وعندما توجهنا للمؤسسات الرسمية لمعرفة عدد المصابين بمرض التوحد، لم نجد إحصائية واحدة تشير إلى عددهم، وهو ما أثار تساؤلات حول مدى اهتمام الحكومة بالفعل بهذه الفئة.
في المقابل، يشير أخصائيون وخبراء إلى أن عدد المصابين بالتوحد يصل لحوالي 8 آلاف مصاب، بينما يشير آخرون إلى أن العدد يصل إلى ثلاثة أضعاف ذلك الرقم، مثلما ذكر محمد عبيدات، أحد الأخصائيين في مركز إربد للتربية الخاصة والنطق.
أطفال التوحد يحتاجون لحلول جذرية على مستوى التعليم
مشكلة التوحد في الأردن ومن يعانون من صعوبات في التعلم على المستوى العقلي والذهني لم تلقَ حلاً جذرياً ولا تزال قيد الدراسة والمعالجة من قبل الجهات الرسمية.
يشير رئيس اللجنة المحلية لمركز التأهيل المجتمعي للمعاقين بمخيم البقعة، بشار العزة، في تصريحات لـ"عربي بوست"، إلى أن المدارس الحكومية ليس لديها القدرة على استقبال الحالات الخاصة المتعلقة بأطفال التوحد أو ممن لديهم إعاقات جسدية أو عقلية أو ممن لديهم صعوبات التعلم، من الأساس.
ويوضح العزة أن هناك جهوداً شعبية وفردية بعيدة عن الدعم الحكومي، والذي يتمثل في مراكز التأهيل المجتمعي التي تعمل على تحقيق الدمج الاجتماعي للأشخاص المعاقين في إطار مجتمعاتهم، ولديها عشرة فروع تغطي العديد من مناطق الأردن.
لكن تلك المراكز تفتقر إلى الدعم الحكومي، وكانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تدعم وتشرف على تلك المراكز، لكنها سحبت دعمها وإشرافها مؤخراً، الأمر الذي بات يشكل عبئاً كبيراً على مدى استمرارية هذه المراكز التي هي بحاجة ماسة إلى الدعم المادي.
ويكشف العزة أن مراكز التأهيل المجتمعي يضم كل فرع من فروعها ما بين 150-200 طالب، وهذه الحالات تتنوع ما بين إعاقة عقلية وذهنية وجسدية، ومنهم من يعاني من مرض التوحد ومن صعوبات في التعلم. وتضم هذه المراكز أخصائيين اجتماعيين ونفسيين، وأخصائيين في العلاج الوظيفي والطبيعي، وآخرين في علاج النطق واللغة.
ويوضح العزة أن تلك المراكز قادرة على استقبال الطلاب من الصف التمهيدي الذي يسبق المرحلة الابتدائية إلى مرحلة الثانوية العامة، وهذا فيما يتعلق بفئة الصم والبكم، أما ما يتعلق بفئة مرضى التوحد فإن المركز ليس لديه الإمكانيات على التعامل مع هذه الفئة إلا لسن 12 عاماً، وبعد ذلك يضطر الطلاب الذين يعانون من التوحد إلى البحث عن جهات أو مدارس أخرى لاستقبالهم، ومنها المدارس الحكومية التي تفتقر أساساً إلى القدر على استقبال حالات التوحد فيما يعرف بـ"ﻏﺮف اﻟﻤﺼﺎدر" اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻄﻠبة ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس.
حلول بديلة
ويضطر العديد من الطلبة الذين يعانون من التوحد والإعاقات العقلية إلى التوجه نحو دورات التأهيل المهني كصياغة الذهب وصناعة القش والخرز ودورات صيانة الأجهزة الخلوية التي تنظمها مؤسسة التدريب المهني.
لكن بشار العزة يؤكد أن تلك الدورات تستهدف من لديه إعاقات بسيطة وليست شديدة، مشدداً على أن أطفال ذوي التوحد يكون من الصعب التعامل معهم بعد سن 12 عاماً، ويكون من الصعب دمجهم بعد وصولهم لسن البلوغ، وهذا كله في ظل عدم توفر الإمكانيات المادية والبيئة التعليمية والتجهيزات الكافية للتعامل مع هذه الفئة بعد هذا السن.
ويتساءل العزة باستمرار أثناء حديثه: "لماذا لا تدعم الحكومة والجهات الرسمية مثل هذه الفئة، ولماذا لا يتم دعم مراكز التأهيل المجتمعي، خصوصاً بعد أن رفعت وكالة الأونروا الدعم عن تلك المراكز"، مشيراً إلى أنّ المركز الواحد من هذه المراكز يحتاج إلى مصاريف تشغيلية قدرها 6000 دينار (8500 دولار) شهرياً كحد أدنى.
وبهذا الصدد يكشف العزة عن وجود استثمارات متواضعة تدعم مركزه بالبقعة، وذلك من خلال تأجير محلات تجارية بدخل قدره 2000 دينار شهرياً، أما باقي المصاريف فمن خلال رسوم الطلاب.
جهود رسمية غير كافية
الجهود الرسمية التي تبذل على صعيد انتشال الأطفال والطلاب الذين يعانون من صعوبات التعلم ومن مرض التوحد، يبدو أنها غير كافية وتبقى في إطار الجهود التنظيرية أكثر مما هي في إطار الواقع.
في هذا السياق، تكشف مساعد الأمين العام للمجلس الأعلى للأشخاص ذوي الإعاقة للشؤون الفنية والناطق الإعلامي باسم المجلس غدير الحارس، في حديثها لـ"عربي بوست"، أنه أثناء عملية التحضير للقانون المتعلق بذوي الإعاقات الأخير 2017-2022، التقوا بمجموعة كبيرة من الاختصاصيين وأشخاص من ذوي الإعاقة وتحدثوا معهم عن التحديات التي تواجههم حتى تتم ترجمتها ضمن نصوص قانون حقوق ذوي الإعاقة رقم (20) الذي صدر في عام 2017.
وأضافت أنه نتيجة للملاحظات التي بلغتهم كان التركيز كبيراً جداً على موضوع التعليم الدامج والحق في التعليم الذي حرم منه كثير من أطفال ذوي الإعاقة، بسبب عدم استعداد وزارة التربية والتعليم ومدارسها وكوادرها لاستقبال الطلبة ذوي الإعاقة، ومنهم ممن يعانون من التوحد ضمن بيئة تلبي متطلبات تعليمهم.
وقالت: "لأجل ذلك إذا تمت مراجعة القانون تجد عدة بنود تشير إلى قضية التعليم الدامج، والأهم بكل هذه النقاط أنه تم تثبيت مسؤولية التعليم لفئة طلبة ذوي الإعاقة لوزارة التربية والتعليم ضمن بنود القانون".
في السابق كانت كثير من الجهات تتبنى موضوع تعليم الأشخاص ذوي الإعاقة ومنهم مرضى التوحد، سواء كانت جمعيات أو غرفاً ملحقة بجمعيات أو مراكز ثقافية وغيرها. لكن بموجب بنود القانون الجديد فإن مسألة التعليم هي- بحسب ما تؤكد عليه الناطق الإعلامي باسم المجلس- من مهمة وزارة التربية والتعليم، وأي مؤسسة تعليمية يجب أن يكون ترخيصها من الوزارة لضمان إسناد مهمة التعليم للجهة المختصة.
بعد ذلك، يجب أن تقوم الوزارة بإصدار استراتيجية للتعليم الدامج يتم تنفيذها خلال عشر سنوات بالتنسيق مع المجلس الأعلى لحقوق المعاقين، وهو ما تم بالفعل بداية عام 2020، لكنّ جائحة كورونا أدت إلى تأجيل تطبيقها، ومع ذلك فإن المجلس لم يتوقف وعمد إلى تطوير الخطة التنفيذية للسنوات الثلاث الأولى لعمل المجلس ووزارة التربية والتعليم في قضية التعليم الدامج.
وتكشف الحارس أن البنود الاستراتيجية والخطة التنفيذية ركزت على عدة بنود أساسية منها ما له علاقة بتدريب الكوادر وهذا الأساس، وتعديل التشريعات والسياسات الناظمة لعملية التعليم لضمان عدم إقصاء أي طالب من ذوي الإعاقة من الحق في التعليم، وتوفير البنية التحتية اللازمة؛ وتتضمن إمكانية الوصول وتهيئة المباني، والترتيبات الميسرة والأجهزة المساندة التي يجب توفيرها في المدارس.
بالإضافة إلى توفير الكوادر المساندة لعملية التعليم الدامج، سواء كان المختصين في العلاج الوظيفي أو في تعليم النطق، الأخصائيين الاجتماعيين، والمعلمين المساندين الذين يجب أن يتولوا عملية مساندة التعليم، بالإضافة إلى التركيز على التهيئة في مرحلة الطفولة المبكرة حتى يكون التعليم مستجيباً لمتطلبات طلبة ذوي الإعاقة.
وتكشف الحارس أن المجلس دخل شراكة مع عدة جهات في موضوع تنفيذ التعليم الدامج ومنها الوكالة الألمانية GIZ، وحالياً يعمل المجلس على 18 مدرسة دامجة للطلبة ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى 12 مدرسة أخرى تتبنى مفهوم الدمج بمفهومه الواسع؛ أي الدمج لكل الطلبة المعرضين للخطر بمن فيهم الطلبة ذوو الإعاقة واللاجئون والأيتام وغيرهم من الفئات التي قد تتعرض للإقصاء بسبب ظروف معينة من التعليم.
وفي السياق نفسه، فإن وزارة التربية والتعليم لديها مبادرات من جهات مانحة منها مبادرة تسريع التعليم والتعلم، وكذلك عملت على تطوير 60 مدرسة دامجة وتوفير معلمين مساندين، وحالياً يتم العمل على تطوير إطار عام للتعليم الدامج في الوزارة بمشاركة كل الشركاء الذين يعملون في مجال التعليم الدامج.
كما أن المجلس يعمل حالياً على تطوير معايير للتقييم التربوي والتي تعتبر الأساس في تقديم الدعم اللازم وتحديد المتطلبات التعليمية للطلبة ذوي الإعاقة؛ وبالتالي العمل على توفيرها من خلال النظام التعليمي المساند الذي سيتم توفيره في المدرسة.
في حال عدم توفر المدرسة الملائمة..
وفي حالة تعذر الأطفال الذين يعانون من التوحد وصعوبات التعلم، فإن الحارس توضح أن القانون أشار إلى أنّه في حال تعذر إلحاق الطالب بمدرسة تعليمية يجب أن تتولى وزارة التربية والتعليم توفير البديل لحين توفير البيئة التعليمية المساندة لهم في المدرسة الأقرب لمنازلهم.
وحالياً يتم العمل على خطين متوازيين، الخط الأول: أن وزارة التربية والتعليم بمجرد تبليغها عن وجود طالب بحاجة إلى تعليم فإن وزارة التعليم ومجلس حقوق المعاقين يقومان بالتنسيق والمحاولة من خلال الوزارة التي ترتب زيارة إلى المدرسة التي يريد الطالب الالتحاق بها ودراسة مدى إمكانية قبوله فيها.
وفي حالة تطلب الموضوع تعليماً، فإن المجلس يقوم بتقديم الدعم الفني اللازم، بحيث إن الطالب يلتحق بتلك المدرسة ويسعى لتوفير برامج تدريبية وتكون مطلوبة في المدارس. وفي حال وجدت المدرسة صعوبة في تهيئة الظروف المناسبة في استقبال الطلاب الذين يعانون من صعوبات التعلم أو صعوبة توفير إمكانيات ومتطلبات أو صعوبة التعديل على البيئة الفيزيائية للمدرسة، يتم توجيه الطالب إلى مدرسة أقرب.
وتشير الحارس إلى وجود خيار آخر تعمل عليه وزارة التربية والتعليم، وهو شراء الخدمات التعليمية للطلبة ذوي الإعاقة في المدارس الخاصة، لكن ضمن ميزانية محدودة لا تغطي كافة الرسوم المدرسية لالتحاق الطالب، وهو أحد الحلول التي يتم توفيرها.