أبلغ سكان محليون عن وجود برميل زيت منقلب على جانبه تخرج منه عظام قدم بشرية في متنزه "بير بروك" العام، في بلدة ألينستاون بولاية نيوهامبشير عام 1985.
عثرت الشرطة داخل البرميل على بقايا هيكل عظمي لامرأة بالغة، يتراوح عمرها بين 23 إلى 33 عاماً، بالإضافة إلى رفات طفلة تبلغ من العمر حوالي 11 عاماً. وبعد مرور حوالي 15 عاماً على تلك الواقعة عُثر على برميل آخر يحتوي على طفلتين أخريين ملفوفتين في أكياس بلاستيكية.
أدَّت عمليات البحث والاستقصاء، التي دامت عقوداً لتحديد هوية تلك الجثث، إلى وصول السلطات في نهاية المطاف إلى قاتل متسلسل ماكر للغاية، يُدعى تيري راسموسن، استخدم العديد من الأسماء المستعارة حتى أصبح معروفاً باسم "القاتل الحرباء"، أما المفاجأة المرعبة فكانت أنه الوالد البيولوجي لطفلة من الأطفال الذين وجدوا في تلك البراميل.
القاتل الحرباء.. تيري راسموسن
وُلد تيري بيدر راسموسن في ولاية كولورادو الأمريكية، في 23 ديسمبر/كانون الأول 1943. وعاش مع عائلته في مدينة فينيكس، عاصمة ولاية أريزونا، ثم انتقل في وقتٍ لاحق إلى هاواي، حيث تزوَّج في عام 1968. عاد راسموسن وزوجته بعد فترة وجيزة إلى أريزونا وأنجبا طفلتين توأم في عام 1969.
أصبح راسموسن كهربائياً مُتمرّساً بحلول عام 1970، وانتقلت عائلته إلى مدينة ريدوود في كاليفورنيا، وأنجبت زوجته طفلاً جديداً عام 1970، ثم طفلاً آخر في عام 1972. قرّرت العائلة العودة مُجدَّداً إلى مدينة فينيكس، حيث بدأ تيري راسموسن مرحلة من حياته مليئة بالخداع والسلوك العنيف.
أُلقي القبض على راسموسن في أريزونا في أوائل سبعينيات القرن الماضي، واعتُقل مرةً أخرى في يونيو/حزيران 1975، بتهمة الاعتداء العنيف. كانت زوجته قد عانت بما يكفي في هذه المرحلة، ما جعلها تهجره وتأخذ أطفالهما بعد فترة وجيزة من اعتقاله.
وبعد أن هجرته عائلته اتَّجه راسموسن إلى نيوهامبشير باسم مستعار (بوب إيفانز)، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وهذا على الأرجح هو المكان الذي بدأ فيه ارتكاب سلسلة من جرائم القتل التي لا تزال ملابسات كثير منها مجهولة حتى يومنا هذا.
"القاتل الحرباء" في نيوهامبشير وكاليفورنيا
كانت دينيس بودين، المقيمة في نيوهامبشير تعاني من مشكلات مالية. في نوفمبر/تشرين الثاني 1981، اصطحبت دينيس ابنتها البالغة من العمر 6 أشهر وصديقها "بوب إيفانز" إلى والدتها لتناول عشاء عيد الشكر، اختفت دينيس وبوب إيفانز منذ ذلك الحين، اعتقدت والدة دينيس أنَّها ربما غادرت المدينة مع ابنتها لتهرب من أزمة ديونها.
تعتقد السلطات أنَّ راسموسن- الذي هو نفسه بوب إيفانز- ربما يكون أحضر دينيس إلى كاليفورنيا وقتلها، على الرغم من عدم العثور على جثتها حتى اليوم.
وفي يناير/كانون الثاني عام 1986، انتقل عامل صيانة جديد يُدعى غوردون جينسن للعيش في إحدى حدائق استضافة المقطورات المنزلية المتنقلة بمدينة سكوتس فالي في كاليفورنيا، مع ابنته "ليزا"، البالغة من العمر 5 سنوات، لم يكن أحد يعلم أنَّ غوردون جينسن هو اسم مستعار آخر للشخص نفسه؛ تيري راسموسن.
بحلول شهر يونيو/حزيران، اقترح جينسن على زوجين مسنين تبني ابنته ليزا، غادر جينسن المكان، تاركاً الفتاة مع الزوجين لتنفيذ ما وعد بأنَّه فترة تبني تجريبية. عندما لم يعد الوالد المزيف قط وُضعت "ليزا" في إحدى دور الاحتجاز الوقائي، لرعايتها وحمايتها من التعرّض للأذى.
كان راسموسن قد أُلقي القبض عليه في كاليفورنيا في العام السابق بتهمة القيادة تحت تأثير الكحول، وكان يستخدم آنذاك اسماً مزيفاً هو كورتيس مايو كيمبال.
عندما أُدين غوردون جينسن بتهمة الإهمال الأسري المُتعمّد، لتخلّيه عن ابنته المزعومة "ليزا"، أخذت الشرطة بصمات أصابعه من حديقة المقطورات المنزلية المتنقلة، واكتشفت وجود تطابق في البصمات يُثبت أنَّ غوردون جينسن وكورتيس مايو كيمبال هما اسمان لشخص واحد، الذي كان في واقع الأمر تيري راسموسن.
بعد مرور 3 سنوات تقريباً، في مارس/آذار 1989، أُلقي القبض أخيراً على راسموسن بناءً على مذكرة توقيف بتهمة الإهمال الأسري المُتعمّد، وحُكم عليه بالسجن لمدة 3 سنوات، قضى منها سنة واحدة، قبل صدور قرار استحقاقه للإفراج المشروط.
لم يلتزم راسموسن بقواعد الإفراج المشروط في اليوم التالي، حيث اختفى عن الأنظار لما يقرب من 8 سنوات.
وتعرَّض راسموسن بعدها للإيقاف من جانب الشرطة في كاليفورنيا، لقيادته سيارة بدون رخصة قيادة، لكن لم تكتشف الشرطة ارتكابه مخالفة انتهاك الإفراج المشروط، لأنَّه استخدم بطاقة هوية جديدة باسم لاري فانر.
اكتشاف المزيد من ضحايا تيري راسموسن
كانت التحقيقات في جرائم القتل المكتشفة في منتزه "بير بروك" العام قد وصلت إلى طريق مسدود منذ فترة طويلة، حيث لم تتوصل السلطات إلى هوية جثة الأم والطفلة اللتين عُثر على رفاتهما في برميل عام 1985. في مايو/أيار 2000، قرَّر أحد محققي تلك القضية القديمة العودة إلى موقع الحادث وإلقاء نظرة أخرى على البراميل المتبقية، حيث عثر على جثة طفلتين أخريين ملفوفتين بأكياس بلاستيكية في برميل آخر موجود على بعد 100 ياردة فقط من برميل عام 1985. قُدِّر عمر الطفلة الأولى بحوالي عامين أو 3 أعوام بينما كانت الطفلة الثانية في العام الأول من عمرها.
صدر أمر باستخراج رفات ضحايا عام 1985، وأكَّد اختبار الحمض النووي أنَّ المرأة البالغة كانت أماً لطفلتين من الأطفال الثلاثة. استطاع الطب الشرعي في وقتٍ لاحق تحديد هوية الضحايا الأربع، الذين قتلوا خلال الفترة من عام 1985 إلى عام 2000، والذين باتوا معروفين باسم "ضحايا جرائم قتل بير بروك"، أو "جثث ألينستاون الأربع".
"القاتل الحرباء" يموت في زنزانته قبل اكتشاف جرائمه
في هذه الأثناء كان تيري راسموسن يعيش في ولاية كاليفورنيا باسم "لاري فانر"، ويواعد كيميائية شابة تُدعى إيونسون جون. اختفت إيونسون فجأة في يونيو/حزيران 2002، واستدعت الشرطة لاري فانر لاستجوابه، كان أصدقاء إيونسون وأفراد عائلتها يشتبهون في لاري فانر بأنَّه المسؤول عن اختفائها، إذ حذّروها في وقتٍ سابق من أنَّ صديقها الجديد يبدو غريب الأطوار. قرَّر المحققون أخذ بصمات لاري فانر ليكتشفوا أنها متطابقة مع بصمات كورتيس مايو كيمبال، الذي كان مطلوباً لانتهاكه قواعد الإفراج المشروط في القضية المدان فيها بتهمة الإهمال الأسري عام 1986، عندما كان يستخدم الأسم المزيف "غوردون جينسن".
عندما فتّشت الشرطة منزل إيونسون جون، عثرت على جثتها وسط كومة كبيرة من فضلات القطط في إحدى زوايا المرآب.
أُلقي القبض على لاري فانر- الذي هو نفسه تيري راسموسن- في نوفمبر/تشرين الثاني 2002 بتهمة قتل إيونسون، وانتهاك قواعد الإفراج المشروط. عندما حُكم عليه بالسجن لمدة 15 عاماً باسم كورتيس كيمبال لم تكن الشرطة قد أدركت بعد أنَّه قاتل متسلسل، اسمه الحقيقي تيري راسموسن، حتى بدأ لغز الجثث الأربع التي عثر عليها داخل براميل منتزه "بير بروك" يتكشّف تدريجياً.
قورنت نتائج تحليل الحمض النووي لكيمبال بالابنة التي هجرها في عام 1986 وثَبُت أنَّه ليس والدها البيولوجي. اعتقدت السلطات أنَّه اختطفها، وقررت فتح تحقيق في عام 2003 لمعرفة العائلة البيولوجية لتلك الطفلة.
مات "القاتل الحرباء" في السجن في عام 2010 باسم كورتيس كيمبال قبل المثول أمام العدالة ليُعاقب على جرائمه الشنيعة، التي اكتُشفت بعد وفاته.
الحمض النووي يربط بعض النقاط ومفتاح حل اللغز في نيوهامبشير
أخطرت السلطات في كاليفورنيا نظيراتها في نيوهامبشير بعلاقة كورتيس كيمبال بالولاية. في أكتوبر/تشرين الأول 2016، قارن المتخصصون الحمض النووي المستخرج من رفات الجثث المكتشفة في نيوهامبشير بالحمض النووي لكيمبال، ليكتشفوا أنَّه الأب البيولوجي للطفلة، التي يتراوح عمرها بين عامين إلى 3 أعوام، التي عُثر عليها في البرميل الثاني في عام 2000.
وفي يناير/كانون الثاني 2017، كشفت السلطات تفاصيل عن بوب إيفانز والجثث الأربع المكتشفة في نيوهامبشير، من ضمنها علاقته باختفاء دينيس بودين وابنتها البالغة من العمر 6 أشهر في عام 1981. وفي يوليو/تموز 2017، أكد اختبار الحمض النووي أنَّ بوب إيفانز هو نفسه تيري بيدر راسموسن، ومع ذلك لم تتوصل السلطات بعد إلى هوية الجثث الأربع.
تولَّى محققون محليون التحقيقات، وكانوا ينقلون كل ما يتوصلون إليه من معلومات إلى محققي تلك القضية القديمة. أجرت المحققة روندا راندال مقابلات مع سكان إحدى حدائق المقطورات المنزلية المتنقلة القريبة من مكان الجريمة، حيث اعترف صاحب متجر مهجور- يقع بالقرب من البراميل بمتنزه "بير بروك العام"- أنَّ القاتل المشتبه به هو رجل يُدعى بوب إيفانز أجرى له بعض الإصلاحات الكهربائية في أواخر السبعينيات، وفقاً لما ورد في موقع ALL THAT'S INTERESTING الأمريكي.
أسفرت التحقيقات في عام 2019 عن وجود امرأة تُدعى مارليز هوني تشيرش، كانت تبحث عن طفلة صغيرة مفقودة منذ عام 1978، اسمها سارة ماكواترز، التي كانت لديها أخت كبرى غير شقيقة تدعى ماري فون. لم تعلم عائلة سارة ماكواترز عنها شيئاً منذ أن غادرت مع والدتها كاليفورنيا في عام 1978 مع رجل تُدعى عائلته باسم راسموسن.
من هنا استطاعت السلطات تحديد هوية ثلاث من الجثث الأربع التي عُثر عليها في براميل متنزه "بير بروك" العام، وهم مارليز هوني تشيرش وطفلتاها ماري فون وسارة ماكواترز، لكن السلطات لم تحدد بعد الابنة البيولوجية لراسموسن، التي عُثر على جثتها في البرميل عام 2000.
محاكمة تيري راسموسن بتهمتَي الخطف والقتل
أدخلت باربرا راي فينتر، المتخصصة في علم الأنساب الجيني، بيانات الحمض النووي الخاص بالطفلة "ليزا" إلى موقع "GEDmatch" المتخصص في مقارنة بيانات الحمض النووي الصادرة من شركات الاختبار المختلفة. بدأت المهمة الشاقة في تتبع شجرة عائلة هذه الطفلة لتكتشف باربرا أنَّ اسم الفتاة الحقيقي هو دون، ابنة دينيس بودين، صديقة بوب إيفانز. وبينما لا تزال دينيس بودين مفقودة احتفظ راسموسن بابنتها الصغيرة في عام 1981، وأطلق عليها اسم "ليزا"، على الأرجح بعد أن قتل والدتها.
وبناءً عليه، يبدو أنَّ هذا "القاتل الحرباء" اتَّبع نمطاً محدداً. لم يستهدف راسموسن الغرباء، بل صديقاته وأطفالهن، ويبدو أنَّه قتل حتى ابنته البيولوجية، لكن لسببٍ ما قرر الإبقاء على حياة طفلة "دون"، ربما ليستخدمها للإيقاع بسهولة بالضحية التالية.
كانت الابنة البيولوجية لراسموسن قد سافرت إلى نيوهامبشير مع عائلة مارليز هوني تشيرش، قبل أن ينتهي بهم المطاف جميعاً في براميل المتنزه.
باستخدام العديد من الأسماء المستعارة استطاع تيري راسموسن خداع وخطف وقتل كثيرين عبر ولايات مختلفة على مدى ثلاثة عقود. وعلى الرغم من وفاة "القاتل الحرباء" منذ فترة طويلة في السجن فإن السلطات لا تزال حتى يومنا هذا تشتبه في تورطه في جرائم لم تُكتشف بعد، تتعلق باختفاء وقتل أشخاص آخرين.