هل فكرت يوماً أن السفر من القارة الإفريقية إلى الأمريكية بقارب شراعي صغير من الممكن أن يكون رحلة ناجحة؟ هذا ما حصل فعلاً مع البحار المغربي العربي بابمار، الذي قرر مواجهة المحيط الأطلسي رفقة صديق له، من أجل الوصول إلى الضفة الأخرى من العالم.
الرحلة لم تكن سهلة بالقدر الذي توقعه العربي بابمار، فقد دامت لأكثر من ثلاثة أشهر، في الوقت الذي كان يتوقع فيه أن المدة الفاصلة بين المغرب وأمريكا هي 30 يوماً فقط لا غير.
الصدفة غيرت حياته
كان العربي بابمار البالغ من العمر 40 سنة، يعمل في مجال الصيد بميناء مدينة الصويرة المتواجدة في الجهة الغربية للمغرب، والمطلة على المحيط الأطلسي؛ حيث كان قد امتهن الصيد لمدة تقارب 20 سنة، فأصبح خبير في كل ما له علاقة بالبحر والإبحار، حسب ما رواه في حوار له رفقة صحيفة "هسبريس" المغربية.
في صيف 1989، غيرت الصدفة حياة العربي، الذي التقى رجل مغربي في الثلاثينات من عمره اسمه فوزي محمد ، قادم من مدينة الدار البيضاء -العاصمة الاقتصادية للمغرب- إلى الصويرة بهدف السفر من هناك إلى أمريكا، وتغيير حياته بحثاً عن فرص أفضل، بعد أن عاش ظروفاً صعبة في المغرب قادته إلى السجن، ثم العمل في مجال البناء.
كان العربي بابمار متواجد في إحدى المكاتب الإدارية في ميناء الصويرة، عندما جاء فوزي طالباً الحصول على ترخيص من أجل السفر بقاربه الشراعي الصغير من الميناء متوجهاً إلى القارة الأمريكية، لكن طلبه قوبل بالرفض، ليتدخل العربي من أجل إقناع الشخص المكلف بالتصاريح، لكن الأمر باء بالفشل مرة أخرى.
بعد الرفض، اقترح العربي على فوزي الإبحار بشكل سري معاً، معبراً عن إعجابه بالفكرة، لأنه يريد بدوره تحسين ظروف عيشه، والهجرة إلى بلاد أخرى، لكن الفرصة لم تسمح له من قبل.
بعد أن تم الاتفاق بينهما، شرع الثنائي الراغب في الهجرة إلى أمريكا في التحضير لمعدات السفر، من أكل وشرب ومعدات السلامة، من أجل الإبحار لمدة توقعوا أن تصل إلى 30 يوماً على أبعد تقدير.
الإبحار نحو مصير مجهول
قرر العربي وفوزي الإبحار مساء يوم 20 أغسطس/آب سنة 1989، وهو يوم احتفال المغاربة بذكرى "ثورة الملك والشعب"، لأن هذا اليوم عطلة رسمية في البلاد، ولم يتمكن أحد من الإمساك بهما لحظة الخروج من ميناء الصويرة.
بدأت الرحلة المنتظرة، وكان البحر والظلام الدامس يحيطان بالصديقين، فقررا تقسيم المهام بينهما، إذ إن العربي بابمار سيتكفل بعملية الإبحار خلال الليل، فيما ستوكل المهمة لفوزي خلال النهار، لكن العربي قوبل بصدمة من العيار الثقيل، بعد أول ليلة يقضيها في المحيط الأطلسي، وهي أن فوزي لا علم له بطرق الإبحار على الإطلاق.
تسلل الخوف إلى قلب العربي، لكنه قرر عدم التراجع، فعلم فوزي أساسيات الإبحار، واستمر التعليم بضعة أيام فقط، فأصبح فوزي قادراً على حل محل العربي خلال النهار، لكي يترك له مجالاً لأخذ قسط من الراحة.
كان العربي خلال الأيام الأولى من الرحلة يقوم بحفر أرقام على خشب القارب الصغير، من أجل تتبع عدد أيام الرحلة، التي كان من المفترض أن تستمر 30 يوماً.
بعد أن تعدت الرحلة يومها الثلاثين، بدأ اليأس يحل محل الأمل في الوصول إلى القارة الأمريكية، خصوصاً أن كمية الأكل والماء التي كانت بحوزتهما قد انتهت، فتوقف العربي بابمار عن حفر عدد الأيام التي قضاها رفقة فوزي بين أحضان البحر.
عاصفة لأزيد من ست ساعات
لم يكن الثنائي مدركاً للمصير الذي ينتظرهما، لكن ومع ذلك كانا يحاولان التشبث بالأمل، وإبعاد احتمالية الموت غرقاً عن تفكيرهما، فقاما بصيد السمك وتجفيفه ليكون صالحاً للأكل، وشرب مياه الأمطار، التي كانت تهطل من حين لآخر.
اعتاد العربي وفوزي على نزول الأمطار من فترة لأخرى، ولأن للعربي تجربة كبيرة في عالم الإبحار كان يتعامل معها بشكل احترافي من أجل تجاوزها.
لكن الأمور كانت أصعب مما يتوقع، عدما ضربت في أحد الأيام عاصفة قوية، وهطلت الأمطار بشكل كبير، مما جعل القارب الشراعي الصغير غير قادر على مقاومة الأمواج العاتية، التي جعلت الماء يتسرب إليه، فكانت احتمالية الغرق أكبر من أي وقت مضى.
كانت مهمة العربي بابمار هي محاولة الإبحار والتحكم في توازن القارب، فيما كان فوزي مكلفاً بتفريغ المياه التي كانت تدخل إلى القارب من خلال دلو صغير.
استمرت العاصمة لأزيد من ست ساعات، صارع فيها الثنائي الموت المحقق، وكانت من أسوأ العواصف التي مرت عليهما خلال رحلتهما هذه، فبعد هدوء الأحوال الجوية، واستقرار القارب، قرر الثنائي عدم الاستسلام مرة أخرى، والاستمرار نحو هدفهما الذي كاد أن يصبح مستحيلاً.
الحلم يتحول إلى حقيقة
بسبب عدم الحركة التي استمرت لأزيد من شهر، تدهورت حالة فوزي الصحية، الذي فقد القدرة على المشي، وأصبح طريحاً مكانه، فكان العربي المسؤول الوحيد على القارب، من أجل الوصول إلى الوجهة المحددة.
وفي أحد الأيام، كان العربي مستلقياً في مكانه من أجل أخذ قسط من الراحة، فسمع صوت فوزي وهو يصرخ من شدة الفرح، وعندما فتح عينيه، اكتشف أنهما وصلا أخيراً إلى اليابسة، دون معرفة في أي جهة من العالم قادهما القارب الشراعي الصغير الذي يركبانه.
بعد الوصول إلى اليابسة، واستعادة الأمل في الحياة من الجديدة، تواصل العربي وفوزي مع سكان المنطقة، فعلما أنهما في شمال البرازيل، وبالضبط في منطقة اسمها "غويانا"، ومن حسن الحظ أن سكان تلك المنطقة يتحدثون الفرنسية، فكان التواصل سهلاً شيئاً ما بينهم، لأن معرفة الثنائي باللغة الفرنسية كانت جيدة، لأنها اللغة الرسمية الثانية المعتمدة في المغرب.
وخلال التواصل مع أهل شمال البرازيل، علم العربي بابمار وفوزي أن رحلتهما دامت أزيد من ثلاثة أشهر، عوض 30 يوماً الذي كان مخططاً له.
أهل منطقة "غويانا" لم يبخلوا في مساعدة العربي وفوزي، اللذين أصبح وضعهما الصحي أفضل بعد تلقي العلاج الضروري، كما تمكن كل واحد منهما الحصول على فرصة عمل في المجال الذي يبرع فيه.
وبعد سنة ونصف من الاستقرار في البرازيل، قرر العربي وفوزي العودة إلى المغرب من جديد، رغبة منهما في العودة إلى أحضان العائلة.
بعد عودة العربي بابمار إلى الصويرة، اشتهرت قصته بين أهالي المدينة، فقرر الكاتب المغربي حسن الرموتي كتابة رواية تحكي تفاصيل الرحلة العربي، التي رواها له على لسانه، وحملت عنوان "الامتداد الأزرق".