كان ألبرت سبير واحداً من أغرب السياسيين وأكثرهم مراوغة في العصر الحديث تقريباً، فقد كان ساحراً للغاية، لدرجة أنه خدع الجميع بداية من أدولف هتلر، وصولاً إلى أجيال كاملة من المؤرخين والصحفيين والمسؤولين.
فقد استطاع النازي المحنَّك الخروج من أحلك وضع واجهته ألمانيا النازية، والهرب بكومة ضخمة من المال والسمعة الطيبة رغم عمله على رأس فريق هتلر المقرب قبل وخلال الحرب العالمية الثانية.
وفي نهاية المطاف، استطاع أن يتنصَّل من عقوبة الإعدام، بعدما جرت محاكمته على سلسلة من الجرائم التي ثبت قيامه بها فعلاً في فترة الحرب، وهندسته بشكل مباشر بناء معسكرات الاعتقال والسجون سيئة السمعة في فترة هتلر. فما هي قصة هذا النازي الذي قال "آسف"؟
شخصية لامعة في فريق هتلر المقرب
وُلد عام 1905 وترعرع في مدينة مانهايم الألمانية، ثم بعد أن كان مهندساً معمارياً شاباً وطموحاً في العشرينيات من عمره، سمع ألبرت سبير أدولف هتلر يتحدث وكان معجباً جداً بالفكر النازي، لدرجة أنه وقع مع الحزب النازي الرسمي في العام 1931، أي قبل عامين من توليه السلطة.
وبحسب موسوعة بريتانيكا البريطانية للتاريخ، فقد كان العقل المدبر لتصميمات مؤتمر نورمبرغ، التي كانت استثنائية في ذلك الوقت واستخدمت الأضواء المسرحية، وعُلِّقَت فيها رايات بحجم الأشرعة التي ترفرف في الهواء، كما وصفها هتلر لاحقاً.
فكان سبير سبباً في إخراج البروباغاندا اللامعة التي تمكن الحزب النازي من الفوز بتصويت الشعب من خلالها. وقد بدت مهارات سبير جيدة، لدرجة أن هتلر عيّنه مفوضاً للعروض الفنية والتقنية في فريقه السياسي.
وبالفعل توطدت العلاقة ووصلت إلى صداقة مباشرة بين ألبرت سبير وهتلر. وبعد فترة من الولاء فاز بمكانة لنفسه في الدائرة الداخلية للحكومة الألمانية.
ومنذ عام 1942 إلى عام 1945 كان وزيراً للتسليح والإنتاج الحربي في الرايخ الثالث، ما أغضب زملاءه أعضاء مجلس الوزراء، الذين رأوا في العلاقة السلسة بينه وبين أدولف هتلر مؤشراً على خلافة سبير للزعيم النازي في المستقبل.
وبحسب موقع National Post الكندي للأخبار، قال هتلر إنه شعر بـ"أحر المشاعر الإنسانية" لألبرت سبير. فقد خرجا في نزهات خاصة في كثير من الأحيان، وعكفا على دراسة كتاب من الرسوم المعمارية معاً.
ومع ذلك، لم يكن سبير يرى هتلر ذكياً للغاية، إلا أنه في الغالب كان يطري عليه ويوافقه الرأي في معظم أفكاره.
فاستطاع ببعض المهارة أن يكون ثروة ضخمة لنفسه من خلال العلاقات التي فتحتها له تلك الصداقة الوطيدة بهتلر.
هذا النمط من الفساد كشفه كتاب السيرة الذاتية للمؤرخ والكاتب مارتن كيتشن، بعنوان "ألبرت سبير: مهندس هتلر" الصادر عن مطبعة جامعة ييل الأمريكية.
ويقول الكتاب إن سبير كان أكثر من مجرد متملق فاسد يقوم بالمناورة والتحايل للوصول إلى أعلى المراكز في الدولة. فقد كان متورطاً تماماً في جرائم العنصرية والإبادة الجماعية والفظائع التي ارتكبها النظام النازي خلال الحرب.
مهندس السجون ومعسكرات الاعتقال
كانت لدى ألبرت سبير موهبة تنظيمية ومهارة استثنائية في العلاقات العامة. وكوزير للذخيرة في مجموعة هتلر المقربة خلال الحرب العالمية الثانية، تمكن من تحسين الإنتاجية بشكل غير مسبوق.
يرجع ذلك جزئياً إلى مقترحه باستخدام العمالة بالسُّخرة الذين تم جلبهم من معسكرات الاعتقال ومن أسرى الحرب، بإجمالي نحو 12 مليون عامل قسري عملوا بالإكراه والتهديد والتعذيب حتى وفاة معظمهم، بحسب إذاعة DW الألمانية.
وبحسب كتاب السيرة الذاتية، كانت تلك الفكرة هي السبب وراء سمعة ألبرت سبير كأسطورة في تحقيق المعجزة الصناعية التي تمتعت بها ألمانيا في فترة الحرب. كذلك ظل الإحصائيون التابعون له يعلنون أن نظام سبير رفع الإنتاج إلى مستويات مذهلة، بالرغم من تداعيات الحرب.
تنصُّل من المسؤولية بمهارة خلال المحاكمة
عندما مثل ألبرت شبير أمام محاكمة جرائم الحرب في مدينة نورمبرغ الألمانية، التي أجرتها دول الحلفاء بعد كسب الحرب، في الفترة من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1945، وحتى قرارها النهائي في أكتوبر/تشرين الأول عام 1946، شهد المهندس النازي أنه لم يكن لديه أية فكرة عما كان يحدث في معسكرات الاعتقال.
واعتذر مؤكداً أن تلك المعلومات عن سوء المعاملة وجرائم التعذيب والقتل لم يكن على دراية بوقوعها، ونتيجة لهذا التصريح أصبحت وسائل الإعلام العالمية تشير لأبرت سبير بلقب "النازي الذي قال آسف".
ويوضح الكتاب أن سبير لم يكن يكذب حيال معرفته بأوضاع المعسكرات التي هندس تصميمها فحسب، بل قام بدور نشط في وضع نظامها وطرق العمل بها أيضاً.
فقد كان بناء المعسكرات ركناً من مهامه في الرايخ الثالث، إلا أن القضاء الألماني آنذاك رغب في تصديق أنه بريء من الجرائم كذريعة لتبييض وجه من انتموا للحزب النازي، واستطاعوا النجاة في نهاية المطاف، بحسب المؤرخ مارتن كيتشن في كتابه.
حكم محدود بالسجن و"قبول الاعتذار"
في نهاية المطاف، حكم قُضاة نورمبرغ على ألبرت سبير بالسجن لمدة 20 عاماً، لاستخدامه قانون السُّخرة فحسب. وقد أمضى هذين العقدين في سجن سبانداو، مكرراً عدداً من التصريحات التي اعتذر فيها عن بناء سجون ومعسكرات ألمانيا خلال الحقبة النازية.
ثم ما لبث أن اشتُهر بعنايته بحديقة السجن، وكتابة سيرته الذاتية الأكثر مبيعاً، عن فترة عمله داخل الرايخ الثالث، حتى أُطلق سراحه عام 1966.
ومع ذلك، على الرغم من مقدار الأدلة التي قدمها الباحثون والمؤرخون على أن سبير قام بتبييض ماضيه والتنصُّل من ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات ضد الإنسانية، استمرت أسطورة سبير باعتباره النازي "البريء" حتى بعد وفاته في عام 1981. ليكون بذلك النازي الأعلى رتبة في محاكمات نورمبرغ الذي تهرَّب من عقوبة الإعدام، أو ببساطة "النازي الذي قال آسف".