74 عاماً انقضت على قضية "رجل سومرتون" الغامض، والتي عرفت أيضاً بأسماء مثل قضية "تمام شود" أو قضية "رجل عمر الخيام"؛ وبعد عقود من الغموض والتكهنات والبحث الجنائي، وحتى البحث من قِبل الهواة، انكشف للعالم اللغز، وانزاح الستار عن هوية الرجل الذي رجّح البعض أنه جاسوس دولي تم التخلص منه في عملية اغتيال، وتكهّن البعض الآخر بأنه زعيم منظمة جريمة سرية، أو حتى قاتل محترف قتل بواسطة قاتل آخر أشد احترافية، وبينما اختلفت التكهنات كانت القضية مغلقة بلا حل حتى 26 يوليو/تموز 2022.
كشف خبراء البحث الجنائي برئاسة "ديريك أبوت"، الباحث والأستاذ في الطب الشرعي وعلم الجينات بجامعة "أديلايد" الأسترالية، عن هويته بأنه كان "كارل تشارلز ويب"، مهندس كهرباء وصانع آلات أسترالي يبلغ من العمر 43 عاماً، وقت وفاته، وتعود أصوله إلى مقاطعة "فوتسكراي" في ملبورن بأستراليا، فكيف بدأ هذا اللغز المحير؟ وما قصة رجل سوميرتن؟ هذا ما سوف نتعرف عليه في تقريرنا..
البداية.. جثة مجهولة على الشاطئ
في الأول من ديسمبر/كانون الأول 1948 على أحد شواطئ مدينة "سومرتون" Somerton الأسترالية تلقت السلطات بلاغاً في السابعة صباحاً من أحد سكان المنطقة يفيد بوجود جثة رجل ملقاة قرب رمال الشاطئ، وبالفحص الأولي كانت جثة لرجل في الأربعينيات من عمره يرتدي حلة أنيقة، وكان هناك بقايا لفافة تبغ تقبع على ياقة قميصه. وبالاستماع إلى الشهود في المنطقة أفاد زوجان أنهما رأيا الرجل على قيد الحياة جالساً على الشاطئ في السابعة مساءً من اليوم السابق، وأقر آخرون أنه شوهد حياً قرب منتصف الليل أيضاً، وكان يبدو عليه الهدوء والاستسلام.
لم تكن هناك أية علامات عنف، أو صراع أو شجار على الجثة، وبتفتيش جيوبه عثر على التالي: تذكرة حافلة مستخدمة حديثاً، وتذكرة تخص الخزائن العامة في محطة القطار، وتذكرة أخرى لركوب قطار إلى أحد الضواحي، وقطعة معدنية صغيرة من الألومنيوم على شكل قمع، وعلبة سجائر من نوع شهير "آرمي كلوب"، ولكن تبين بفحصها أن السجائر بداخلها ليست هي النوع نفسه المدوّن على العُلبة، وثقاب وعلبة علكة "لبان" مستعمل نصفها.
كل هذه الأغراض لم تثر الشكوك كثيراً، وبدت عادية إلى حد ما؛ ولكن أول ما أثار الانتباه في القضية كان تقرير التشريح للجثة؛ والذي أظهر وقت الوفاة في الثانية صباح يوم العثور على الجثة، وكان القلب سليماً ولا يعاني أي قصور واضح، ورغم ذلك كان سبب الوفاة الرئيسي هبوطاً حاداً في القلب، فأثار هذا شكوك رجال الطب الشرعي، وخمنوا أنه ربما تعرض للتسمم، وبالفعل العلامات الأولية للتسمم ظهرت في الجثة مثل تضخم الكليتين والنخاع الشوكي والكبد، وهو ما يشي بالتسمم؛ ولكن الصدمة جاءت بتحليل عينة دمه التي كانت خالية تماماً من أثر أي سموم متعارف عليها، وهو ما يعني أن التسميم تم بنوع غير معروف من السموم التي لا تترك أثراً في الدم، وهو ما اشتهر آنذاك كأسطورة في كواليس عوالم المخابرات والتجسس كنوع من وسائل الاغتيال.
لغز رجل سومرتون يزداد تعقيداً
بعد فشل التعرف على أي هوية للرجل الغامض عبر بصماته أو بصمات أسنانه، وبعد شهر توصلت الشرطة عبر تذكرة خزانة عامة بين حاجياته لمكان الخزانة، ولما فحصت الخزانة عثر بداخلها على حقيبة بها بعض الملابس والأغراض الشخصية، وبفحص هذه الملابس بدقة وجدت الشرطة أن جميع الماركات بداخل ملابسه منزوعة تماماً، وعثرت على ربطة عنق عليها اسم "كين" Kane، وهو الاسم الذي تكرر على قطع أخرى بهجاء مختلف: Kean.
ولكن ما عثرت عليه الشرطة تالياً هو ما فجر الغموض في قضية الرجل بشكل كبير؛ كانت قطعة صغيرة من الورق ملفوفة ومخيطة داخل إحدى ثنيات الملابس بشكل مخفي، وكانت قطعة الورق تحتوي جملة واحدة فقط هي Tamam Shud أو "تمام شود"، وهي جملة فارسية تعني "انتهى" أو "تم إنهاؤه"! وبالبحث الأوليّ اتضح أن الجملة هي خاتمة إحدى رباعيات الشاعر الفارسي الشهير "عمر الخيام".
بدأت التكهنات تثار بشدة ما بين كونه أحد أفراد منظمة جريمة سرية، وأنه تم التخلص منه برسالة شاعرية، وهو ما يتشابه مع أساليب بعض عصابات المافيا التي تترك "بصمة" خاصة أو رسالة تحذير للآخرين عند التخلص من أي شخص خائن أو من أعدائها.
ظهور الكتاب الغامض
بعد عدة أسابيع من البحث والغموض والحيرة، جاء بلاغ غريب من رجل أسترالي يسكن قرب مكان العثور على الجثة، عثر على كتاب مقطوع منه قصاصة صغيرة، وقال إنه عثر على الكتاب ملقى في مقعد سيارته الخلفي منذ عدة أسابيع، ولكنه لم يعتقد أنه أمر يستحق الإبلاغ عنه، ولكنه قرر الإبلاغ عندما أعلنت الشرطة الاستعانة بالمواطنين بالبحث والتقدم بالإبلاغ عن أي أمر غامض مهما كان صغيراً.
الكتاب أثار الدهشة لأن القصاصة الممزقة منه كانت تطابق تماماً القصاصة التي عثر عليها داخل ملابس القتيل الغامض، وكان الكتاب هو كتاب الشعر الشهير "رباعيات الخيام"، وفي باطن أحد الأغلفة كان هناك رقم هاتف مدون بلا اسم، ووجدوا مجموعة من الحروف المرتبة تشي بأنها شفرة مراسلة أو محاولة لحل رسالة مشفرة، وبالتقصي عن الشفرة قال بعض الخبراء إنها تتشابه بشدة مع شفرات المراسلات السرية العسكرية، والتي تستخدم من قبل الجواسيس في الحرب العالمية الثانية؛ وانتقلت التكهنات الآن إلى خانة الجاسوسية والتساؤل إذا ما كان الرجل الميت جاسوساً تم التخلص منه بطريقة محترفة من قبل جهاز استخبارات عالي القدرات.
اللغز الذي انكشف
بالبحث خلف رقم الهاتف اتضح أن الكتاب يخص امرأة أسترالية تسكن قرب "سومرتون" تدعى "جيسكا تومسون"، وأقرت أن الكتاب يخصها بالفعل، وعند مواجهتها بالقضية أنكرت أي معرفة بالرجل، ولما صنعت الشرطة قالباً من الجص لوجه الرجل وعرضته عليها ارتبكت وتصرفت بشكل بدا مريباً لرجال الشرطة، ولكنها في النهاية أنكرت تماماً معرفتها بالرجل.
بعدها استمر البحث الحثيث بلا جدوى، واضطرت الشرطة إلى الاستعانة بالشرطة الدولية في توزيع منشور عالمي يتساءل عن هوية الرجل، ومن بين الذين اهتموا بالمساعدة كان الاسم الشهير "ج. إدغار هوفر" رئيس جهاز المباحث الفيدرالية الامريكية، والذي تفقد القضية وأرسل للسلطات الأسترالية إفادة بأنه لم يعثر للرجل على أثر داخل أمريكا تماماً.
وظلت القضية غير مغلقة لفترة لم يعثر فيها على أية أدلة، تحولت بعدها لما يعرف في عالم الجرائم باسم "قضية باردة" Cold Case، وأصبحت لغزاً شهيراً بحث وراءه الكثيرون دون جدوى، ولكن عام 2011 وبإعادة فحص أخير لقالب الجص الذي أُعد للجثة عثر الأطباء الشرعيون على بضع شعيرات محفوظة داخل القالب كانت بمثابة أمل كبير لحل اللغز بما أن علم الجينات والطب الشرعي كان بدائياً في الأربعينيات وتطورت قدراته اليوم بشكل كبير.
وبعد 12 عاماً من الفحص وتتبع الجينات المسجلة في أستراليا، تم التعرف على الرجل أنه "كارل تشارلز ويب"، الذي اتضح أنه كان مهندس كهرباء وصانع أدوات، كان انطوائياً يحب الشعر ويكتبه، وأنه كان متزوجاً وانفصل عن زوجته، وعانى الوحدة حتى وفاته، ورجح سبب الوفاة أنه انتحار لرجل شاعري يائس، بينما تم حل لغز الاسم "كين" على ملابسه، والذي كان يتطابق مع اسم زوج أخته ، وهو ما رجح أنه ربما استعار الملابس منه. ولكن يظل اللغز قائماً إذ لم يُعرف حتى اليوم نوع السم الذي انتحر به، والذي اختفت آثاره من دمائه، ولكن خلفية "ويب" في الهندسة والآلات ترجح تماماً إمكانية أنه كان على اطلاع بعلم السموم، وربما انتحر بأحد أنواع السموم غير الشائعة آنذاك.