في الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة الهجري، تستقبل مدينة مكة المكرمة أعداداً ضخمة من الحُجاج من جميع أنحاء العالم.
ولكن في يوم عرفة، الموافق للتاسع من شهر ذي الحجة، بعد يوم التروية تحديداً، قد يتفاجأ البعض بتوشُّح الحرم المكي بالسواد بصورة لافتة، وذلك في عادة تُسمَّى بـ"عادة يوم الخليف".
فما هي تلك العادة المتوارثة منذ سنوات الإسلام الأولى، ولماذا ينتشر اللون الأسود بشكل واضح في مكة وحول الكعبة خلال يوم عرفة على وجه التحديد؟
عادة يوم الخليف المكية
هذا السواد هو إشارة لرداء السيدات الأسود الذي يظهر بشكل لافت مع انتشارهن في أرجاء الحرم المكي. إذ من المألوف عند أهالي مكة عبر القرون الماضية، أن يوم التاسع من شهر ذي الحجة، والذي يوافق يوم عرفة من كل عام هجرى، أنه يُدعى يوم الخليف.
وفيه تهب نساء وأطفال مكة من مناطق وضواحي المدينة، ويتوجهون إلى الحرم لاستغلال فراغه تزامناً مع قيام الحُجاج بأداء مناسك الحج والصعود إلى جبل عرفات.
بحيث يكون رجال أهل المدينة المقدسة مشغولين في ذلك الوقت بتقديم الخدمات للحجاج والعمل على تنظيم أعمال الحج ومناسكها، بينما تقوم النساء باستغلال هذا اليوم بالذهاب إلى الحرم للصلاة والطواف حول الكعبة والإفطار داخل الحرم.
منتهزين فرصة أن الحجاج وغالب رجال مكة منشغلون في أداء المناسك والإشراف عليها على جبل عرفات، فيتمكنّ من الحركة بسهولة واحتلال كافة الأماكن والبقاء دون أن يزاحمهن الرجال في ذلك.
لكن بطبيعة الحال بدأت تلك العادة في مدينة مكة قديماً قبل توسعة الحرم وما حول الكعبة، وبالتالي كانت المساحات محدودة بشكل كبير عما هي عليه اليوم.
يوم خاص بالنساء والأطفال
يعتبر هذا اليوم خاصاً بأهل مدينة مكة التي عُرف عنها قديماً أنها كانت مدينة صغيرة بالنسبة لما عليه الآن، وقبل اتساع المدينة وزيادة عدد السكان فيها.
تقول الداعية زينب برناوي لصحيفة عكاظ السعودية: "في يوم عرفة يكتسي الحرم المكي باللون الأسود، إذ تكتظ ساحاته وأروقته بالنساء المتشحات بالعباءات السوداء، وتتوافد النساء برفقة أطفالهن من مكة والقرى التابعة لها للمكوث معظم ساعات اليوم بالحرم للتعبد والطواف والابتهال إلى الله".
وتتابع الداعية قائلة: "ليس ذلك فحسب بل إن بعض النساء يأتين من المدن والمناطق القريبة والنائية عن مكة المكرمة لأداء العمرة والإفطار في الحرم المكي مع الصائمين والصائمات في يوم عرفة".
أسباب التسمية بـ"يوم الخليف"
كلمة "الخُليف" هي تصغير للفظ "خَليف" وهو المتأخر بعد الناس.
وجاء في كتاب المعجم العربي "تاج العروس من جواهر القاموس": "خَلَفَهُ، خَلَفاً، وخِلاَفةً: كان خَلِيفَتَهُ، واسم الفاعل منه: خَلِيفَةٌ، وخَلِيفٌ، بمعنى بقي بعده".
يقول خطيب المسجد النبوي الشريف والمدرس بالمسجد الحرام عبد الرزاق محمد حمزة، حاكياً عن حال مكة في طفولته بحسب موقع الإسلام سؤال وجواب: "في يوم الخليف كان كل الرجال في مكة يذهبون للحج، ومن النادر أن يتخلف عن الحج أحد منهم؛ وفي ليلة العيد يطوف النسوة بشوارع مكة وأزقتها ، فإذا رأوا رجلاً أمطرنه بوابل من عبارات النقد، وقرّعنه بعبارات من مثل: يا قيس يا تيس.. الناس راحوا الحج وأنت قاعد ليش".
عادة "القيس" وتوبيخ الرجال القاعدين
ويوم الخُلِّيف الموافق ليوم عرفة (أو يوم الوقفة) كان يسمى بهذا الاسم بسبب خلو الحارات من الرجال بسبب أعمال الحج وخدمة الحجيج.
ففي الماضي بحسب صحيفة مكة السعودية، كان اليوم هو مناسبة رئيسية هامة يعمل فيها جميع أهل مكة من رجالها على خدمة الحجاج، فيتجهون إلى جبل عرفة تاركين مكة ومُخلِّفين وراءهم زوجاتهم وأسرهم.
تزامناً مع ذلك، كانت تخرج النساء إلى الجبال المطلة على الشوارع الرئيسية لمشاهدة حركة الحجيج، ثم استغلال فراغ الحرم المكي والصلاة وأداء مناسك العمرة وبلوغ الحجر الأسود، ثم الإفطار وأداء الصلوات.
وإذا ما وجدن أي رجل في مكة خلال يوم الخليف، فكن يبدأن بعادة تسمى "القيس"، لتحفيز للناس للخروج، فقد كان العرفُ المكي ينص على وجوبُ خروجِ جميعِ رجالِ مكة والقادراتِ من النساءِ للحج أو لخدمةِ الحجيج، وإذا تخلَّف رجل عن إحدى تلك "الحُسنَيَين"؛ الحج أو خدمة الحجيج، فإن مصيره على أيادي نساء مكة التوبيخ وغناء الأهازيج اللاذعة لمعايرته، وصولاً إلى الضرب بالعصي حتى يغادر المكان ويلتحق برجال المدينة.