تخيل أن تزور عاصمة الموضة والأزياء وتتمشى في أشهر شوارعها؛ الشانزليزيه، وتجد بجوارك 2022 خروفاً، فقط لأن مسؤولاً ببلدية فرنسية محباً كبيراً للحياة الريفية خطط لذلك الحدث، سيكون ذلك مفاجئاً بالنسبة لك بالطبع، لكن تخيل أن يضاف لهذا المشهد المفاجئ أن تعرف أن هذا المسؤول الذي يدير بلدية فرنسية أراد أن يستقل ببلديته، وأن يكون لسكانها جواز سفر خاص.
2022 خروفاً في الشانزليزيه
شهد شارع " الشانزليزيه" الشهير بالعاصمة الفرنسية باريس حدثاً غريباً، في 6 مارس/آذار 2022، تمثل في عرض أكثر من 2022 خروفاً جيء بهم من منطقة "بيارن" بجبال "البيرينيه"، للمشاركة في حفل ختام المعرض الدولي للزراعة الذي نظم بقصر المعارض بباريس، بداية من 26 فبراير/شباط 2022.
هذا الاستعراض فكرة جاك بيديهونتا، عمدة بلدية "لاس"، وهو مدافع شرس على "الحياة الريفية الإيجابية"؛ إذ أراد من خلال ذلك العرض نشر "صورة للمصالحة بين الأرياف الفرنسية ومدنها، بعدما أصبح التفاهم بينهما يتناقص شيئاً فشيئاً، في حين أنّ كل واحد منهما بحاجة للآخر"، وفق رأيه الذي أخبر به موقع القناة التلفزيونية الفرنسية TV5Monde.
وقدم ذلك العدد الكبير من الغنم، رفقة بعض البقرات الحلوب، من قرى "أوسو" و"أسبي" و"باريتوس" بمنطقة "بيارن" بشمال غرب جبال "البيرينيه"، يقودهم 13 من أكبر الرعاة سناً، مع 13 راعية شابة.
وقال قال أحد الرعاة الذين قدموا مع العمدة إلى معرض باريس من فوق المنصة التي وُضعت بوسط الشارع الشهير، موجهاً كلامه للجماهير الباريسية: "في كل مرة تختفي فيه مزرعة، فإنّ ذلك يعني منزلاً أقل في القرية وإغلاق مدرسة وغياب خدمات عمومية. لا تتركونا لوحدنا فلربما أطفالكم هم من سيلتحقون بنا"، في إشارة منه إلى تشجيع أبناء المدن لتجريب حظهم في العيش بالأرياف.
يرأس بلدية "لاس" منذ 39 عاماً وأراد الاستقلال بها
ذلك المشهد لا يعد أغرب شيء يقدم عليه جاك بيديهونتا، فقراراته ومواقفه الغريبة لا تنتهي، وإن كان أبرزها إعلانه، في العام 2014، استقلال البلدية التي يُسيرها وتحويلها إلى "إمارة".
إذ يرأس جاك بلدية "لاس" منذ شهر مارس/آذار 1983، أي منذ أن كان يبلغ من العمر 24 عاماً، وهي البلدية التي تبلغ مساحتها 6.4 كيلومتر مربع، وعدد سكانها 140 فقط، ورغم أن مساحة البلدية وعدد سكانها محدود للغاية، لكنه أراد أن يستقل بها.
بدأت محاولاته في طلب الاستقلال، في صيف 2011، برسالة وجهها لرئيس الجمهورية الفرنسية، في ذلك الوقت، نيكولا ساركوزي، للتعبير عن رفضه للقوانين التي كان رئيس فرنسا يعتزم تطبيقها في إطار الإصلاح الإقليمي، والتي يراها بيديهونتا تصب في صالح المدن الكبيرة، ومجحفة في حق تلك التي يقل عدد سكانها عن 500 فرد.
" يبدو أنّه من الضروري، سيدي رئيس الجمهورية، التريث لتفادي رؤية أرياف قاحلة، حيث تحل فيها الكآبة مكان الحياة السعيدة".
وطلب جاك بيديهونتا، في نفس الرسالة، تحويل قرية "لاس" إلى إمارة تتمتع بنفس النظام الضريبي لإماراتي "موناكو" و"أندورا" (أي الإعفاء من الضرائب)، مما قد يشجع الشركات الاقتصادية على الاستثمار بالمنطقة وبالتالي انتعاش الحياة بها.
قوانين ساركوزي للإصلاح الإقليمي تضمنت تقليص عدد البلديات، من خلال إلغاء تلك التي يقل عدد سكانها عن 500 فرد، ودمجها مع بلديات أخرى، إضافة إلى تقليص عدد المقاطعات ومنح تلك المقاطعات الحرية في تحديد النظام الضريبي.
ما يعني انتزاع صفة البلدية عن "لاس" وتصبح خاضعة لنظام ضريبي تابع للمقاطعة الجديدة التي ستنضم إليها، ما قد يكون مجحفاً في حق سكانها، بعدما كانت تابعة لمقاطعة "أكيتان".
وبعد أسابيع قليلة، جاء رد ساركوزي برفض الطلب، ولكن بيديهونتا وبلدته لم يشعرا بالإحباط ، فقرر المجلس البلدي إعلان استقلال "إمارة لاس" في مطلع العام 2014، لكن فرنسا لم تعترف بها.
ولمنح هذا الاستقلال الذاتي الصبغة القانونية، قام المجلس البلدي بتأسيس الإمارة على شكل جمعية سُميت "جمعية إمارة لاس"، وتم إيداع النظام الأساسي للجمعية لدى محافظة "بو" وتم نشره بالجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية في شهر أبريل/نيسان من العام 2014.
لكن بعد رحيل ساركوزي عن رئاسة الجمهورية الفرنسية، وانتخاب فرانسوا هولاند، رئيساً جديداً في العام 2012، قام الأخير بتأجيل تطبيق الإصلاح وأدخل تعديلات على المشروع، الذي بدأ تطبيقه فعلياً في العام 2015، وبقيت "لاس" بلدية كما كانت من قبل، ولكنها انضمت إلى مقاطعة جديدة سميت "لانوفال أكيتان"، بداية من يناير/كانون الثاني 2016، بعد دمج 3 مقاطعات سابقة في واحدة، وهي " أكيتان" و"ليموزان" و"بواتو شارينتز".
مركز للجمارك وجواز سفر خاص
لم ينجح جاك بيديهونتا في جعل قريته إمارة مستقلة رسمياً، ولكنه نجح من خلال "تمرده" في لفت وسائل الإعلام الفرنسية لمنطقته، وبالتالي إنعاش السياحة بها حيث جلب الكثير من السياح والفضوليين الراغبين في اكتشاف "الإمارة" ومظاهرها الطريفة.
وعلى غرار مركز الجمارك بمدخل البلدية المصبوغ بألوان علم الإمارة؛ حيث يقابلك من حين لآخر "الأمير بيديهونتا" حاملاً جواز السفر الخاص بهذه الدولة المجهرية، أو رافعاً لعلمها.
كما يمكن للسائح التمتع باكتشاف الحياة الريفية للمنطقة وزيارة معالمها التاريخية كقصر "لاس" الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن السابع عشر والذي يضم متحف يبرز تاريخ البلدية.
تاريخ قرية "لاس" وعلاقتها بالملك هنري الرابع
تقع قرية "لاس" بمنطقة " بيارن" بشمال غرب جبال "البيرينيه" الشهيرة، وهي المنطقة التي كانت إمارة مستقلة، قبل أن تصبح مقاطعة فرنسية منذ سنة 1620، وهي مسقط رأس الملك هنري الرابع، الذي حكم فرنسا منذ العام 1589 وحتى 1610، والذي وُلد باسم "هنري دو بوربون" (في العام 1553) في بلدة "بو"، عاصمة "إمارة بيارن"، التي تبعد عن قرية "لاس" بـ 52 كيلومتراً فقط.
كان هنري الرابع، منذ سنة 1572، ملكاً لمملكة "نافارا" الواقعة ببلاد الباسك الاسبانية الفرنسية، أي بجبال "البيرينيه"؛ حيث كانت "بيارن" إحدى إماراتها المستقلة ذاتياً.
وضم هنري الرابع مملكة "نافارا" لعرشه بفرنسا على شكل اتحاد، قبل أن يتوفى مُغتالاً في باريس في العام 1610، ويخلفه على العرش ابنه الطفل "لويس العاشر" الذي وبعد سنوات من اضطراره لترك زمام تسيير أمور الحكم لوالدته "ماري دي ميدليس"، ثم انتفض عليها في العام 1517، وانفرد بالحكم وضم بعد ذلك مملكة "نافارا" إلى فرنسا بشكلٍ نهائي (في العام 1620)، وانضمت لها، طبعاً، إمارة "بيارن" بشكلٍ تلقائي.