قرب قلعة حلب الشهيرة استوقفنا صوت مميز، كان صاحبه يغني مجموعة أغانٍ من التراث الحلبي القديم، ويتفنن في تأدية القدود، وكأنه يقف على مسرح، اقتربنا أكثر من مصدر الصوت، الذي حسبناه صادراً من حفلة، لنتفاجأ بأن المغني هو بائع للقهوة والشاي، يرتدي لباساً محلياً تقليدياً، ويوزع خدماته على المارة مصحوبة بأغنية.
أخبرنا أبو عبدو صعب بأنه كان يعمل خياطاً، وبعد أن فقد مصدر رزقه خلال الحرب الأخيرة بحلب بدأ بالبحث عن عمل من دون جدوى، وفكر بأنه يتقن صنع القهوة العربية، ويملك خامة مقبولة للغناء، وباستخدام هاتين المهارتين يمكنه تأسيس عمل بسيط له، وهو ما قام به بالفعل، فاختار قلعة حلب، حيث يكثر المارة والزوار، وبدأ ببيع القهوة والغناء، خاصة القدود الحلبية التي عشقها منذ الصغر.
غير بعيد عن بائع القهوة هذا يستعد تيم بعد عودته من المدرسة للذهاب إلى معهد الموسيقى، في حي السبيل، ليتلقى فيه دروس العزف والغناء، ورغم أنه مازال في التاسعة من عمره إلا أنه أمضى حتى اليوم ثلاث سنوات في التعلم والتدريب، واختار القدود لأنه تأثر بها منذ كان صغيراً جداً، واعتاد سماعها في المنزل، والحفلات العائلية، ولطالما أمضى سهرات طوالاً وهو يطرب بسماع الأغاني التراثية، ويؤكد أنه حريص على حضور دروسه والتدريب في المنزل كحرصه على مدرسته، ويعتقد أن الفن سيكون مشروعه في المستقبل.
حلب.. منارة القدود
تيم وأبو عبدو هما نموذجان من آلاف الحلبيين، وربما مئات الآلاف، ممن تشربوا القدود وتربوا عليها منذ نعومة أظفارهم، فلا يخلو بيت من بيوت الشهباء إلا ويترعرع بداخله صوت عذب يخطف الألباب وتطرب له الأنفس، وإن لم يكن ذلك فهناك من يعشق الطرب الأصيل ممن يطلقون عليهم (السّميعة) يهوى هؤلاء الاستماع بشغف، مع امتلاكهم ذاكرة في التراث الغنائي لا يشق له غبار، وبين الحنجرة العذبة والأذن الموسيقية تبوأت حلب مكانة مرموقة، واقترن اسمها بـالقدود، رغم انتشار هذا النوع من الطرب في أصقاع الأرض إلا أن حلب مدينة وشعباً لهم مع الأغنية الطربية شجون، لهذا احتفلت العام الفائت بتصنيف القدود الحلبية ضمن لائحة التراث الإنساني، في منظمة اليونيسكو.
يعتبر نقيب الفنانين عبد الحليم حريري ومدير معهد صباح فخري في حديثه مع "عربي بوست" أن الحلبيين بقوا مصرّين على تدريب أولادهم على الموسيقى رغم الحرب، يقول: "لم ننقطع عن إقامة الحفلات الموسيقية حتى في أحلك الظروف وأقسى أيام المدينة، ندرب الأطفال، وهم بدورهم ينشرون السعادة وثقافة الفرح".
وعن علاقة الشهباء وأهلها بالفن يقول الناقد الفني فاضل كواكبي: "تمتلك الأسر الحلبية فطرة الغناء والموسيقى ممن يمتلكون التراث الغنائي، لكن ليس كل طفل قادراً أن يكون مطرباً أو مغنياً، لأن ذلك له علاقة بالأصوات، ومن الضروري أن يتشبع الطفل بهذا التراث مع تأديته بطريقة احترافية، فإنهم سيتذوقون الفن، والذي أعتبره -أي التذوق- أهم من الأداء، لأنه يخلق الحاجة لمطربين كبار".
طريق الحرير أدخل الفن لبيوت حلب
الباحث التاريخي نور الله جركس، الذي بحث في نشأة القدود واختلافها عن الأغاني والموشحات، فقد ارتبطت هذه القدود بالناحية الدينية، وانشغلوا بلحنها، وأحبها الناس، وتبدلت الكلمات بكلمات جديدة مقربة لهم، وطورت القدود في دمشق وحلب وحمص وفي عدة مدن، وكان أبرز عرّابيها الشيخ أمين الجندي.
يقول جركس: "حين تدرج القدود ضمن التراث اللامادي فهذا يعني الدخول إلى العالمية، ويتطلب نقل رسالة للأجيال القادمة بوجود تراث لامادي معترف به أممياً".
وأضاف المتحدث "أُجريت أبحاث كثيرة لكتابة القدود وكيفية انتقالها مع الحفاظ على اللحن، وجدنا أن أغلب بيوت الحلبيين كانت توجد فيها آلات موسيقية، والسبب -بالإضافة لمحبة الفن- هو مرور حلب بطريق الحرير، وهذا أسهم في انتشار ثقافة الموسيقى وإقامة الاحتفالات التي تُواكب موسيقى الزائرين من التجار والقوافل التجارية، وتنشيط السياحة وقت ذلك، عبر تقديم الخانات للعديد من الخدمات كتقديم اللقمة الطيبة والموسيقى بعد عناء المسافرين من مشاق السفر".
وفي هذا السياق قال الباحث جركس "توقفنا عند كثير من الأشخاص قد غنوا القدود، بعضهم من حرف ومهن مختلفة، منهم بنّاء وآخرون يعملون بالخياطة وبعض صغار الكسبة، وبالتالي توصلنا لنتيجة أن غناء القدود وانتشارها بهذا الشكل بين الناس من باب الهواية وليس من باب المهنة أيضاً".
القدود الحلبية.. نشيد الشهباء
وعلق الباحث والمؤرخ علاء السيد، على اعتبار القدود الحلبية نشيداً يومياً ودائماً لأبناء المدينة، بأن السبب يعود إلى التسامح الديني، الذي أجاز تغيير الكلمات مع الأناشيد.
ويذكر المحامي السيد قصة حدثت في ستينيات القرن الماضي، في الزاوية الهلالية، والتي تعتبر أقدس الزوايا دينياً وصوفياً، وأخرجت الكثير من الفنانين والمنشدين، ومنهم الفنان الراحل صباح فخري، والمطربون الحلبيون.
لقد حضر طبال يعمل في ملهى ليلي لشيخ الزاوية وطلب حضور مجلس الذكر، ووافق الشيخ على حضوره رغم اعتراض المجلس، وبعد مشاركته قام بالدق على الدف بطريقة محترفة، وبات يقود الذكر بطريقة مدهشة، وبالتالي لاقى أصداء بين الحضور، وبالنتيجة أخذ الناس يطلبونه لحضور مجالس الأفراح وغيرها، وتحول من العمل في الملهى الليلي إلى العمل بالأفراح، ليخبر شيخ الزاوية آنذاك طلابه وأتباعه بهذه اللفتة، وضرورة التسامح، ولولا هذا التسامح لما أنتجت المدينة هذا الكم من التراث، وضجت بأصوات وأداء موسيقي مميز كهذا".