يتردد المثل الشعبي "إن عشقت اعشق قمر وإن سرقت اسرق جمل" في الأفلام والمسلسلات والأدبيات العربية، وهو أشبه بتوصية للصوص بعدم الالتفات للأشياء الصغيرة والتركيز على الغنيمة الأكبر (ربما طمعاً بمشاركتها)، لكن هذه الوصية تتعارض إلى حد كبير مع وصية شيخ اللصوص في العصر العباسي.
نعم، كان للصوص في العصر العباسي "شيخ" يدعى عثمان الخياط ثم "كبير" يدعى "ابن حمدي اللص".
في كتاب "الفرج بعد الشدة"، أورد القاضي أبو علي التنوخي جزءاً يتطرق لرصد تجارب اللصوص في تلك الحقبة التاريخية، ونزعة تبرير اللصوص سرقة الأثرياء ضمن معادلة اللص الفقير والسلطة الفاسدة والأثرياء الذين امتنعوا عن دفع الزكاة للفقراء والمحتاجين.
وصية شيخ اللصوص: لا تسرقوا الجيران وأنتم أولى لعدم دفعهم الزكاة
وعثمان الخياط كان شيخاً لجماعة "العيارين"، وهي المسمى المتداول للصوص من ضمن تعابير أخرى كالشطّار والدعّار، والذين انتشروا في بغداد في القرنين الثامن والتاسع ميلادياً.
كانت جذور حركتهم تتفرع من التفاوت الشاسع بين الفقير والغني في فترة سياسية مضطربة شهدت حرباً بين الخليفة الأمين وولي عهده المامون.
وتماماً كـ "البلطجية" أو "الفتوة"، كانوا ينتشرون في جماعات لها قائد ويقطعون الطرق على المارة ولا يتوانون عن القتال ويتخذون لأنفسهم أسماء غريبة مثل:"أبو الدود، وأبو الذباب، وأسود الزبد، وأبو الأرضة، وأبو النوابح" وفق ما جاء في كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبو حيان التوحيدي.
ويعد شيخ اللصوص عثمان الخياط منظّراً وخطيباً في شؤون السرقة، إذ قال لأتباعه:"لم تزل الأمم يسبي بعضهم بعضا ويسمون ذلك غزواً وما يأخذونه غنيمة، وذلك من أطيب الكسب، وأنتم في أخذ مال الغدر والفَجَرة أغدرُ؛ فسَمُّوا أنفسَكم غزاةً كما سمّى الخوارجُ أنفسَهم شُراةً".
وكان من وصاياه عند تنفيذ عمليات السرقة ما يلي: "الفتى لا يزني ولا يكذب، ويحفظ الحُرُم ولا يهتك ستر امرأة".
ولقب الخياط باسمه لأنه كان ينقب البيوت عند سرقتها ثم يسد النقب بمهارة فائقة وكأنه خاطه فسُمي الخياط.
ومن أشهر وصاياه لأتباعه من اللصوص ما قاله يوماً عن نفسه: "ما سرقت جاراً قطُّ ولو كان عدواً، ولا سرقت كريماً وأنا أعرفه، ولا خنت مَن خانني، ولا كافأت غدراً بغدر".
بل كان يعاقب المجرمين الذين لا ينصاعون للمبادئ ومواثيق الشرف موصياً أصحابه: "لا بد لصاحب هذه الصناعة (أي اللصوصية) من جراءة وحركة وفطنة وطمع، وينبغي أن يخالط أهل الصلاح، ولا يتزيّا بغير زيّه".
وكان يرشدهم قائلاً: "اضمنوا لي ثلاثاً أضمن لكم السلامة: لا تسرقوا الجيران، واتقوا الحُرُم، ولا تكونوا أكثر من شريك مُناصف، وإن كنتم أولى بما في أيديهم لكذبهم وغشهم وتركهم إخراج الزكاة وجحودهم الودائع".
كبير اللصوص ابن حمدي: لسنا أسوأ من السلطان
أما كبير اللصوص فيصفه التنوخي بأنه كان "لصاً نبيلاً" وذكياً في بغداد.
في إحدى المرات قطع ابن حمدي الطريق على رجل قرب بغداد، وعندما حاول الرجل إقناعه بهدوء بعد السرقة، ما كان من ابن حمدي إلا أن يقدم في إجابته قراءة سياسية لظاهرة الفساد المستشري في الدولة آنذاك، وبأن انتشار السرقة ما هو إلا رد فعل على فساد السلطة التي ضيقت عليهم سبل العمل المشروع.
وقال ابن حمدي للرجل:"الله بيننا وبين هذا السلطان الذي أحوجنا إلى هذا! فإنه قد أسقط أرزاقنا وأحوجنا إلى هذا الفعل".
ثم قارن بين ما يفعله شخصياً وما ترتكبه السلطة قائلاً: "لسنا فيما نفعله نرتكب أمراً أعظم مما يرتكبه السلطان حين ينهب خيرات الشعب ويتركه فريسة للفقر والفاقة".
وذكر ابن حمدي أسماء مسؤولين بعينهم مثل أمير بغداد أبي جعفر ابن شيرزاد والقائد أبي عبد الله البريدي في القرن العاشر الميلادي في مدينتيْ واسط والبصرة، وقال إن كلاً منهم"يصادر الناس ويفقرهم"، و"يأخذون أصول الضِّياع والدور والعقار، ويتجاوزون ذلك إلى الحُرُم". ثم قال: "فاحسبونا نحن (أي اللصوص) مثل هؤلاء".
وعندما ذكّر الرجل ابن حمدي بيوم الحساب، فأعاد له نصف ماله وأرسل معه من يؤمنّه في طريقه كي لا يتعرض لاعتداء آخر.
وفي كتاب "الكامل" لابن الأثير، يبدو أن أمير بغداد ابن شيرزاد حاول التعاقد مع كبير اللصوص ابن حمدي شرط أن يتقاسما ما يجمعه من أموال بنحو 15 ألف دينار شهرياً (أي ما يعادل 2-5 مليون دولار حالياً).
لكن هذا التحالف كان فخاً عجّل بنهاية ابن حمدي، الذي اعتقله قائد شرطة بغداد أبو العباس الديلمي ثم قتله.