كثيراً ما نشعر أن هناك خطباً ما بنا. وذلك عندما نتفاجأ من ردود أفعالنا ودرجة تأثرنا بالأماكن أو الأشخاص أو التجارب المعينة التي تقابلنا في حياتنا اليومية.
قد نتساءل لماذا كل هذا الانفعال؟ هل كان الأمر يستحق حقاً؟ ولماذا تمتلك بعض الأمور والمواقف تلك القدرة الهائلة على التأثير فينا، بل حتى تعطيلنا عن الحياة بصورة طبيعية بهذا القدر؟
الأزمات النفسية غير مفهومة المصدر قد تشير لمشكلة مكبوتة منذ الطفولة
في هذه الأثناء، سيكون من الضروري عليك من أجل تفكيك أسباب المشكلة، أن تبدأ التفكير فيما إذا كانت هناك رواسب وتراكمات نفسية تشير لإصابتك بصدمة طفولة مكبوتة حملتها على عاتقك حتى مراحل البلوغ.
كل ما في الأمر أن تجربة الأحداث المؤلمة والمواقف الصعبة خلال سنوات طفولتك الأولى أمر صعب للغاية، وتبقى معك طوال عمرك ويمتد تأثيرها على مدار حياتك كلها.
وبالنسبة لبعض الناس، قد تختار أدمغتهم دفع الذكرى إلى منطقة اللاوعي، لكي يتمكنوا من الاستمرار في عيش حياتهم دون الوقوف على تلك المشاهد المؤلمة.
هو رد فعل لا واعي يتم في الأساس بغرض "حمايتك" ومساعدتك على المضي قُدُماً، فهو بمثابة آلية عقلك أوتوماتيكية للتكيُّف مع الصدمات، إلا أن صدمات الطفولة غير المُعالجة قد تسبب لك مشاكل جذرية في طريقة تعاملك مع الأمور والأشخاص من حولك.
أولاً.. كيف تحدث الصدمة العاطفية في الطفولة؟
تُعرَّف الصدمة بأنها حدث مرهق للغاية أو مزعج يجعل الشخص يشعر بالعجز ويخرج عاطفياً عن السيطرة. ويمكن أن تؤدي الصدمات النفسية من أي نوع إلى إيذاء المشاعر وتشويه الذكريات وإصابة الشخص بالقلق المستمر.
وتحدث الصدمة العاطفية والنفسية نتيجة أحداث مرهقة بشكل غير عادي، لدرجة تحطِّم إحساس الطفل بالأمان. وغالباً ما ينطوي الحدث الصادم على تهديد للحياة أو السلامة، كما يمكن أن يكون أي موقف يضغط الطفل ويشعره بالإرهاق أو العزلة صادماً أيضاً، حتى بدون وقوع أي أذى جسدي عليه.
بالتالي فإن التجربة العاطفية هي التي تحدد ما إذا كان الطفل يعاني من الصدمة العاطفية، وليست الظروف الموضوعية التي يواجهها.
يمكن أن تحدث الصدمة أيضاً بسبب الضغوط المستمرة مثل العيش في حي غير آمن، أو محاربة مرض، أو التعرُّض للتنمر، أو الوقوع ضحية للعنف المنزلي، أو المعاناة من صدمة الطفولة المبكرة مثل الإهمال والإيذاء.
وسواء كنت قد شاهدت أو واجهت أي تجربة مؤلمة في طفولتك، فمن المحتمل أن تؤدي البيئة المؤلمة إلى ظهور علامات صدمة الطفولة بعد البلوغ والنضج.
إذ تظهر أعراض الصدمة نفسها بشكل مختلف من شخص لآخر، وهناك العديد من الآثار اللاحقة للمعاناة من الصدمة العاطفية في مرحلة الطفولة.
علامات تشير إلى معاناتك من الصدمة العاطفية منذ مرحلة الطفولة
يوضح موقع Harley Therapy للاستشارات النفسية أن هناك اختلافات في نوعية تفاعلنا مع الصدمة النفسية والعاطفية. فالبعض قد يتذكر كل تفاصيل ما حدث، بينما يميل الغالبية إلى فقدان الذاكرة كلياً للتشويش على الصدمة.
يُصاب بعض الأشخاص بالعديد من الأعراض منذ الطفولة وتستمر معهم خلال حياتهم، والبعض الآخر لا تظهر عليهم أعراض الصدمة ولكن فجأة أثناء حياتهم الحافلة كأشخاص بالغين وحتى متقدمين في السن قليلاً، قد يحفِّز مثير ما الأمر برمته.
بشكل عام، تشمل العلامات التي يجب البحث عنها كشخص بالغ تعرضت لصدمة عندما كنت طفلاً، ما يلي:
- المعاناة من الاكتئاب و / أو القلق المزمن.
- المعاناة من التقلبات المزاجية و / أو الميل إلى المبالغة في ردود الفعل.
- مواجهة صعوبات في إدارة التوتر.
- اعتقاد وإيمان راسخ أن العالم مكان خطير ومؤذٍ.
- مواجهة صعوبات في الثقة بالآخرين.
- شعور لا يمكن تفسيره بالوحدة والعزلة.
- غير قادر على الحفاظ على علاقات دائمة ومرضية.
- تشعر دائماً بالخدر أو أنك "تشاهد" نفسك من الأعلى.
- الأرق و / أو الكوابيس المستمرة مع مواضيع متكررة.
- صعوبة في التركيز.
- شعور لا يمكن تفسيره بالخسارة والحداد والذنب.
- الأوجاع والآلام غير المبررة و / أو التعب المزمن.
- أذهل بسهولة وغالباً ما يكون منفعلاً.
- الميل لسلوكيات الإدمان.
- إيذاء النفس.
- حالات الصحة العقلية ذات الصلة بصدمات الطفولة.
إذا كنت تعاني من صدمة في مرحلة الطفولة، فمن الشائع أن تعاني من القلق والاكتئاب كشخص بالغ، إلى أن تطلب المساعدة للكشف عن تجربتك ومعالجتها.
وتشمل مشاكل الصحة العقلية الشائعة الأخرى السلوك الإدماني وإيذاء النفس والغضب المكبوت ومشاكل إدارة الغضب واضطرابات الأكل.
يرتبط الاعتداء الجنسي على وجه الخصوص بتطور اضطراب الشخصية الحدية.
بالنسبة لبعض الأشخاص الذين عانوا من صدمة الطفولة، فقد تظهر عليهم أيضاً أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، أو PTSD.
الذات الزائفة بسبب عدم تلقي الاهتمام والحب في الطفولة
عندما يحمل الناس أعباء صدمات الطفولة العاطفية معهم لمرحلة البلوغ، يمكن أن تكون النتيجة هي تطويرهم لـ"نفس مزيفة". ويحدث هذا عندما لا يشعر الطفل بالحب أو الرعاية التي يحتاجها، وبالتالي يبدأ في أن يكون "ما يرغبه الآخرون منه" لكي يستحق المحبة والاهتمام والرعاية.
يمكن أن يصيبنا دفن المشاعر بهذه الصورة بعدم الاكتفاء، والوقوف عائقاً أمام تلبية احتياجاتنا العاطفية الفعلية، وينتهي الأمر إلى تطوير المصاب بصدمة نفسية لشخصية زائفة له يقوم بالتعامل بها مع العالم، ولكنها في الواقع لا تعكس ذاته الحقيقية.
ويوضح موقع Advekit للصحة النفسية والعقلية، أنه عندما يدفن الشخص عواطفه من سن مبكرة، فإنه يفقد الاتصال بمن هو حقاً ويصاب بالرعب من الانكشاف للآخرين، وحينها يعني هذا بالنسبة له أنه لن يستحق الاعتناء أو الحب أو القبول.
أفضل طريقة لاكتشاف ما إذا كانت الذات الزائفة هي علامة على صدمة الطفولة بالنسبة لك هي البحث عن خدمات العلاج التي تركز على الصدمات. سيساعدك العثور على معالج متخصص في الصدمات العاطفية في مرحلة الطفولة على إعادة الاتصال بمشاعرك والتعبير عن مشاعرك.
ردود الفعل الحادة وغير المبررة لأشخاص ومواقف وأماكن محددة
هل سبق لك أن قابلت شخصاً ما وشعرت على الفور بالرغبة في الهروب منه؟ قد يكون هذا الشعور علامة على صدمة الطفولة المكبوتة. إذ يحذرك عقلك وجسمك من أن هذا الشخص غير آمن، حتى لو لم تكن تعرفه جيداً.
ونتيجة لذلك، قد تشعر أن جسمك يتحول إلى وضع دفاعي، أو تجد لديك رغبة قوية في الهروب من الموقف دون تحديد السبب. كما قد يكون رد الفعل هذا لأن هذا الشخص يذكرك بشخص تسبب لك في صدمة في الماضي.
غياب المرونة والقدرة على التعامل
كما يمكن للأماكن أيضاً أن تثير مشاعر التوتر والخوف والقلق لدى الشخص الذي يقمع ذكريات صدمة الطفولة لديه. لأنك عندما تمر بتجربة الصدمة لأول مرة، يقوم دماغك بتدوين ملاحظات عن كل شيء – الألوان والروائح والأصوات.
وبحسب موقع Integrative Life Centre للاستشارات النفسية، هذا يعني أن مجرد التواجد في مكان مشابه لذكريات طفولتك المكبوتة قد يؤدي لإثارة هذا الخوف العميق بداخلك ويدفعك للدخول في وضعية "القتال أو الهروب".
المعاناة من التحولات العاطفية الشديدة
عندما يكون من الصعب عليك السيطرة على عواطفك في معظم الأوقات، فاعلم أن هناك رواسب صدمة منذ الطفولة لديك.
فقد تجد أنك مستاء للغاية من تعاملات يومية مع الآخرين. وقد تجد نفسك تنتقل سريعاً من حالة الاسترخاء والراحة إلى الشعور بالغضب أو الخوف والذنب، كل ذلك بسبب شيء يبدو صغيراً وتافهاً. وغالباً ما يكون هذا التغيير لأن هذا الشيء الذي يبدو صغيراً على ما يبدو يذكرك دون وعي ببعض جوانب صدمة الطفولة المكبوتة عندك.
مشاكل التعلُّق والارتباط
تسبب لك العديد من صدمات الطفولة المكبوتة بالخوف الشديد من الهجران.
ويمكن أن تكون مشكلات التعلق بسبب اضطرابات النمو التي تسببها التجارب الصادمة في السنوات المبكرة من حياتك.
قد تجد أنك أصبحت مرتبطاً بشدة بأشخاص آخرين وتشعر بالضيق أو الانفعال الشديد تجاه مغادرتهم لك. حتى لو كان شريك حياتك فقط يغادر مؤقتاً لقضاء أمسية في الخارج مع صديق له، فإن تلك المواقف قد تسبب قلقاً وخوفاً شديدين، وتبدأ مخاوف الهجران التسلل إلى عقلك.
القلق المزمن
القلق هو عاطفة يتعايش بها الكثير من الناس طوال حياتهم وفقاً لموقع Integrative Life Centre.
ويكون أولئك الذين قمعوا ذكريات الطفولة هم أكثر من يعانون من القلق المزمن والشديد. وبمجرد أن تبدأ في الكشف عن صدمتك المكبوتة مع أخصائي صحة عقلية، ستتمكن من الكشف عن مدى ارتباط القلق لديك بتجاربك المؤلمة.
اضطراب ما بعد الصدمة
يتطور لدى العديد من البالغين الذين عانوا من صدمات الطفولة المبكرة المكبوتة إلى اضطراب ما بعد الصدمة. ويمكن أن يكون للعيش مع هذا الاضطراب المعقد العديد من الآثار السلبية طويلة المدى، وهي تؤثر بشكل كبير على الصحة العقلية.
تشمل علامات وأعراض اضطراب ما بعد الصدمة المعقد ذكريات عاطفية شديدة يمكن أن تؤدي إلى الاكتئاب والقلق المزمن والسلوك الانتحاري ومشاكل إدارة الغضب.
إذا بدت هذه العلامات والأعراض مألوفة بالنسبة لك، فمن المهم أن تبحث عن علاج لاضطراب ما بعد الصدمة واستشارة طبيب نفسي متخصص.
ما عليك فعله إذا اكتشفت أنك تعاني من صدمات الطفولة المكبوتة
بادئ ذي بدء، اعلم أنه ليس خطأك على الإطلاق أن تعاني من آثار طفولتك حتى اليوم. ما حدث كان خارجاً عن إرادتك وهو أمر مؤسف.
ما هو تحت سيطرتك الآن هو قدرتك على اتخاذ خطوات لمساعدة نفسك.
من غير المعروف أن آثار صدمات الطفولة تتحلل بطريقة سحرية مع مرور الوقت أو مع تقدم العمر، لكنها تستجيب بشكل إيجابي للانتباه والدعم المركزين.
وبحسب موقع Harley Therapy، تتوفر الآن معلومات حول التعرف على صدمات الطفولة ومعالجتها بسهولة على الإنترنت، من خلال المنتديات التي يمكنك التواصل مع مرضى آخرين خاضوا نفس تجربتك.
هناك أيضاً العديد من الكتب حول هذا الموضوع والتي يمكن أن تكون بمثابة نقطة انطلاق لاستكشاف تجربتك، أو تجلب لك الشعور بالراحة لمجرد معرفة أنك لست وحدك في هذا.
رحلة التعافي شاقة ولكن مُجدية
ومع ذلك، كن حذراً من لعب دور الضحية وتوجيه اللوم عندما يتعلق الأمر بصدمة الطفولة. إذ يمكن أن يؤدي التعرف على تعرضك لصدمة ما إلى اندلاع العديد من المشاعر بداخلك، بما في ذلك الغضب والاستياء.
في حين أنه قد يكون من المغري الاتصال على الفور بأفراد الأسرة أو الآخرين الذين تسببوا في معاناتك خلال طفولتك، فمن المستحسن القيام بذلك بعد معالجة مشاعرك حول الموضوع مع متخصصين، وتكون في مكان مستقراً للتعامل مع نتيجة هذه المحادثات.
هذا هو أحد الأسباب العديدة التي يوصى بها بشدة إذا كنت ضحية لصدمة الطفولة أن تسعى للحصول على الدعم المهني والمساعدة، بحسب Harley Therapy.
فبالإضافة إلى محاول تفكيك مشاعرك وتحديد المواقف المحجوبة في طفولتك التي تسببت لك بكل هذا الأذى، يمكنك أحياناً أن تبدأ في تحقيق التحسُّن وتتعافى تدريجياً من عرقلة صدمات الطفولة لسير حياتك بشك طبيعي.
ومع ذلك، يُنصح بالحصول على مستشار أو معالج نفسي مدرب لكي تتمكن من العودة بالزمن والبحث في ذكرياتك واكتشاف ما حدث بالضبط وكيف كانت ردة فعلك وكيف تغيرت مفاهيمك بناءً على الموقف الأليم الذي مررت به.
وبالاستعانة بالأخصائي وكتب الدعم الذاتي، يمكنك تعلُّم كيف تتعامل مع صدمة ذلك الوقت، وكيف تعالج أثرها عليك اليوم لكي تتمكن أخيراً من المضي قدماً في حياتك.