هل سبق أن وجدت نفسك تفرط التفكير في إهانةٍ ما تعرضت لها، أو تركز على أخطائك بصورة متكررة لدرجة قد تمنعك أحياناً من النوم أو الأكل بصورة طبيعية؟
صحيح أنه غالباً ما يكون للانتقادات تأثير أكبر من المديح على النفس البشرية، كما تستطيع الأخبار السيئة جذب الانتباه أكثر بكثير مما تستطيعه الأخبار الإيجابية.
والسبب في ذلك هو أن الأحداث السلبية لها تأثير أكبر على أدمغتنا من تأثير الأحداث الإيجابية بأنواعها. وقد توصل علماء النفس إلى هذا الميل في السلوك البشري، وسمّوه التحيُّز السلبي. لكنهم توصَّلوا أيضاً إلى أن الجينات تلعب دوراً محورياً في امتلك هذا التحيُّز.
لدينا تحيُّز سلبي بطبيعتنا.. إذن ما علاقة الجينات بالموضوع؟
في أبحاث علمية في الجينات وعلم الوراثة، كشف علماء النفس أكثر من مجرد "تحيُّز سلبي" عند البشر يكون هو الدافع في الميل إلى السلبية والتشاؤم.
ووجد بحث نشرته مجلة Psychological Science لعلم النفس أن بعض الناس لديهم استعداد وراثي لرؤية العالم بطريقة قاتمة وسلبية عن غيرهم.
ووفقاً للباحثين بجامعة كولومبيا البريطانية الذين نشروا نتائج الدراسة لأول مرة في العام 2013، يمكن لمتغير جيني معروف أن يجعل الناس يدركون ويتأثرون بالأحداث العاطفية -خاصة السلبية منها- بشكل أكثر حدةً من غيرهم.
تقول أستاذة علم النفس والمشاركة في البحث، ريبيكا تود: "هذه هي المرة الأولى التي كشفنا فيها هذا الاختلاف الجيني، وكيف يمكن أن يؤثر بشكل كبير على كيفية رؤية الناس للعالم وتجربته".
إذ تشير النتائج إلى أن الناس يختبرون الجوانب العاطفية للعالم جزئياً من خلال "نظَّارات جينية"، وأن الاختلافات البيولوجية على المستوى الجيني يمكن أن تلعب دوراً مهماً في الفروق الفردية في الإدراك.
ووجد البحث الجين المعنيّ هو متغير ADRA2b، والذي يؤثر على الهرمون والناقل العصبي norepinephrine الذي يلعب دوراً في تكوين الذكريات العاطفية وفي الإدراك الفعلي.
الجين يجعلنا أكثر ميلاً لإدراك الجانب السلبي من الحياة
بمشاركة 200 شخص في الدراسة، ظهرت أمامهم كلمات إيجابية وسلبية ومحايدة في تتابع سريع على شاشة موضوعة أمامهم.
وكان المشاركون الذين امتلكوا المتغير الجيني السالف ذكره، هم أكثر احتمالية لإدراك الكلمات السلبية وملاحظتها عن الآخرين، بينما أدرك الباقون الكلمات الإيجابية والكلمات المحايدة بدرجة متساوية.
وبالنظر إلى تلك النتيجة، يتم التأكيد على أن هؤلاء الذين توارثوا هذا المتغير الجيني بالتحديد، هم الأكثر عرضة لملاحظة الوجوه العابسة في الشارع، والتركيز على المخاطر والتهديدات من حولهم عوضاً عن رؤية الجمال والفُرص.
وبحسب موقع Science Daily العلمي للدراسات، لا يتحمَّل الجينوم المسؤولية الكاملة عن مستوى ونوعية إدراك البشر لما حولهم.
الأمر أنه يُلقي الضوء على الطرق التي يمكن من خلالها للجينات، إضافة إلى عوامل أخرى مثل التجارب والتربية والحالة المزاجية والصحة، أن تؤثر على الفروق الفردية في الإدراك العاطفي والمعرفي عند البشر باختلافاتهم.
كما تساعد تلك المعلومات في تفسير سبب ميل بعض الناس بشكل خاص لرؤية الجوانب السلبية للعالم من حولهم، بينما يمر الآخرون من أمامها دون ملاحظتها.
علاوة على ما سبق، لا يرتبط الجين فقط بالاختلافات بين الناس في انتباههم لما حولهم وكيفية إدراكه، ولكن أيضاً يرتبط بالذاكرة.
لذلك من المحتمل أن يجد الأشخاص المصابون بهذا الجين أيضاً أن الأحداث السلبية تتعزز في ذاكرتهم وتظل قوية وحاضرة بصورة أكثر من غيرهم.
قد يعني ذلك أن الأشخاص الذين لديهم الجين هم أكثر عرضة للمعاناة من ذكريات غير مريحة عن المواقف السلبية أو يعانون حتى من اضطراب ما بعد الصدمة بشكل أكبر من غيرهم.
وبحسب موقع Spring لأبحاث علم النفس والصحة، يمتلك حوالي 50% من العرق القوقازي متغير جين ADRA2b الذي يسبب تلك المشكلة عند حامليه، ويتضح أن معدلات توارثه جينياً تكون أقل بكثير في الأعراق الأخرى.
الأمر ليس محتوماً عليك.. فأنت تملك زمام النتيجة النهائية
كما هو الحال مع العديد من الجينات في أجسامنا، فإنها بطبيعتها تتفاعل مع البيئة من حولنا. وبالتالي فإن تأثيرها على نفسية الفرد يتحدد جزئياً من خلال تربيتنا وتجاربنا، وعلى الظروف الحاصلة من حولنا وكيف نختار التفكير والتصرف حيالها.
لذلك إن كنت تعتقد أنك تحمل جيناً مسؤولاً عن رؤيتك فقط لنصف الكوب الفارغ أمامك، تذكر أن الجين قد يكون مسؤولاً فقط عن الفكرة الأولى والانطباع الأول كأقصى تقدير.
لكنه لا يمنعك أبداً من السيطرة على المكان الذي تؤول إليه في النهاية بمشاعرك وأفكارك وأفعالك. ما زال أمامك نصف كوب من الماء، وعليك أنت فقط أن تحدد كيف تنظر إليه.