لماذا تطوف مكعبات الثلج الثقيلة على سطح الماء؟ أليست جماداً ويُفترض أن تغرق للأسفل؟ لو كانت هذه المكعبات تستقر في قاع الكوب لما كانت هناك حياة على كوكب الأرض! ليست هناك أي مبالغة في هذا الاستنتاج، فالمياه بكل بساطة من أغرب المواد والسوائل على كوكب الأرض، بل يقول العلماء إنه لا ينبغي أن تكون سائلاً.
حقيقة أن الجليد يطفو هو أحد غرائب الماء العديدة، والماء مادة مألوفة لدرجة أنها تبدو عادية، لكن لا يوجد فيها أي شيء عادي، والعديد من ميزاتها عجز العلماء عن تفسيرها حتى الآن، حسب موقع Chemistry World.
الماء أغرب مواد الأرض
تختلف خصائص الماء كثيراً عما قد يتوقعه المرء من تركيبتها الكيميائية، ومحاولات فهم كيفية تسبُّب هيكلها المجهري في مثل هذا السلوك الفريد أمر "تمت مناقشته بشكل مكثف لأكثر من 100 عام ولم يتم حله بعد"، كما قال الفيزيائيان لارس بيترسون وأندرس نيلسون من جامعة ستوكهولم (السويد)، وريتشارد هنشمان، من جامعة مانشستر (المملكة المتحدة)، في مراجعة حديثة لموقع Open Mind.
دور بيولوجي حاسم
يعرف كل طالب في المرحلة الابتدائية أن المواد تنقبض عند تبريدها وتتمدد عند تسخينها.
حتى الماء الساخن يقل حجمه عندما يبرد، ولكن عند درجة حرارة أقل من 4 درجات مئوية، يحدث شيء غير عادي: إذ يبدأ في التوسع مرة أخرى، لأن كل من قام بتجميد زجاجة ممتلئة جداً يعرف جيداً كيف يزيد حجم الجليد داخل القارورة وقد تنكسر لو كانت زجاجية.
فالجليد أقل كثافة من الماء السائل وبالتالي يطفو على سطحها، وهي ظاهرة أثارت اهتمام غاليليو غاليلي بالفعل في عام 1612.
ماذا سيحدث لو لم يطفُ الجليد؟
في المحيطات والبحيرات والأنهار، تمنع طبقة الجليد العائمة التي تتشكل في الشتاء الحرارة من الهروب، مما يحافظ على الماء تحته في حالة سائلة.
إذا غرق الجليد في القاع، فسيستمر تكوين مزيد من الجليد حتى يصبح كل شيء كتلة صلبة كبيرة؛ لن تؤدي الحرارة المنبعثة من السطح إلا إلى إذابة طبقة علوية رفيعة، مما يجعل من المستحيل على الحياة المعقدة كما نعرفها اليوم أن تتطور.
إضافة إلى الدور الكيميائي الحيوي للمياه، كانت البيولوجيا والجيولوجيا وديناميكيات المحيطات أساسية في جعل الأرض كوكباً صالحاً للسكن.
لذا لو لم يطفُ الجليد على وجه الماء لما استمرت الحياة كما نعرفها اليوم.
يوجد في 3 حالات عكس المواد الهيدروجينية الأخرى
وفقاً لصيغة الماء الكيميائية، جزيء واحد من الأكسيجين واثنان من الهيدروجين (H2O)، يجب أن يتبع النمط الذي يعتمده كبريتيد الهيدروجين (H2S) وسيلينيد الهيدروجين (H2Se) أو تيلوريد الهيدروجين (H2Te)، وهي مركبات مماثلة مع العناصر التي تتبع الأوكسجين في مجموعتها من الجدول الدوري.
في هذه الحالة، يجب أن يغلي الماء عندما يكون أكثر دفئاً من -80 درجة مئوية ويتجمد عند -100 درجة مئوية.
لكن الماء يتجمد عند 0 درجة مئوية ويغلي عند 100 درجة مئوية، تحت ضغط الأرض الجوي الطبيعي.
لكن الضغط الجوي للأرض يمنح الماء نطاقاً واسعاً من درجات الحرارة ليبقى في حالة سائلة، بل يجعله أيضاً المادة الوحيدة التي في ظل الظروف المعيشية، توجد في صورة صلبة وسائلة وغازية.
ينبغي أن يكون غازاً وليس سائلاً
خذ كوباً من الماء وانظر إليه؛ مادة عديمة اللون والرائحة والطعم، ووفق قواعد الكيمياء يجب لا أن تكون سائلة على الإطلاق.
إذا اتبعت المياه القواعد، فلن ترى شيئاً في هذا الزجاج ولن يكون لكوكبنا محيطات على الإطلاق. يجب أن توجد كل المياه الموجودة على الأرض كبخار فقط: جزء من جو كثيف رطب فوق سطح غير مضياف وجاف.
فالماء يتكون من ذرتين خفيفتين جداً- الهيدروجين والأوكسجين- وفي الظروف المحيطة على سطح الأرض يجب أن يكون غازاً.
فمادة كبريتيد الهيدروجين (H2S)، على سبيل المثال، غاز، على الرغم من أنها تعادل ضعف الوزن الجزيئي للماء، وكذلك الأمر مع جزيئات أخرى مماثلة الحجم مثل الأمونيا (NH3) وكلوريد الهيدروجين (HCl) الموجود بالطبيعة بحالة غازية.
الماء الحار يتجمد أسرع من الماء البارد
تُعرف هذه الخاصية المميزة باسم Mpemba، نسبة إلى طالب في المدرسة الثانوية التنزانية يُدعى إيراستو بي مبيمبا، الذي اكتشف في عام 1963 أن مزيج الآيس كريم الساخن يتجمد بشكل أسرع من المزيج الأكثر برودة، في تجربة الفصل الدراسي.
على الرغم من سخرية المعلم من مبيمبا، لم يكن مبيمبا وحده الذي لاحظ هذا التأثير الغريب للمياه، فقد كتب كل من أرسطو وفرانسيس بيكون ورينيه ديكارت عنه، حسب ما نشره موقع Guardian البريطاني.
لفهم سبب تحطيم الماء جميع القواعد، تأمَّل قدرة حشرة صغيرة على التحرك على طول سطح البركة.
لا تغرق هذه الحشرات الصغيرة بسبب التوتر السطحي للماء، والذي يعتبر هائلاً عند مقارنته بتوتر السوائل الأخرى.
يحدث هذا بسبب القدرة المثيرة للاهتمام لجزيئات الماء على الالتصاق ببعضها البعض. وفي الشكل السائل، تنجذب ذرات الهيدروجين بجزيء ماء إلى ذرة الأوكسجين لجزيء آخر.
يمكن لكل جزيء ماء أن يشكّل ما يصل إلى أربعة من هذه الروابط الهيدروجينية، ما يمنح الماء تماسكاً فريداً في السوائل.
يفسر هذا التماسك والتعاضد سبب وجود الماء سائلاً على سطح الأرض، وبالتالي يتطلب طاقة أكثر من المعتاد لفصلها عن بعض، مثل غليه ليصبح غازاً.
ثوري ويتحدى الجاذبية
تماسك الروابط الهيدروجينية يعني جذب ذرات وقطرات الماء باتجاه بعضها البعض، وهو ما يفسر قدرة جزيئات الماء على سحب بعضها البعض عبر أصغر الأوعية الدموية في الجسم.
تعمل غالباً ضد قوة الجاذبية وتحمل الأوكسجين والمغذيات إلى أجزاء عالية يصعب الوصول إليها مثل خلايا الدماغ.
تعني الآلية نفسها أن النباتات يمكنها امتصاص الماء من الأعماق تحت سطح الأرض لتغذية الأوراق والأغصان التي تنمو في ضوء الشمس.
المذيب العالمي الرسمي
لا ينجذب الماء إلى نفسه فحسب، بل يلتصق بأي شيء آخر يصادفه؛ ويمكن وصفه بالمذيب العالمي القادر على تمزيق المركبات الأخرى.
فالملح الشائع المكون من بلورات كلوريد الصوديوم يذوب بسهولة في الماء، لأن الروابط الهيدروجينية تسحب ذرات الصوديوم والكلور بعيداً عن البلورة، وتتركها تطفو بِحرية عبر السائل.
ولأن الماء مُذيب جيد، يكاد يكون من المستحيل العثور عليه بشكل طبيعي في حالة نقية؛ حتى إن إنتاج عينات نقية في المختبر أمر صعب.
يذوب كل مركب كيميائي معروف تقريباً في الماء إلى حد صغير (لكن يمكن اكتشافه). وبسبب ذلك، يعد الماء أحد أكثر المواد الكيميائية التي نعرفها تفاعلاً وتآكلاً، حسب ما نشره موقع Nasa.
والقدرة على التفاعل مع أشياء كثيرة أمر بالغ الأهمية للحياة. هذا يعني أن الماء يمكنه إذابة مجموعة متنوعة من العناصر الغذائية والمكونات الأخرى ونقلها حول أجسامنا.
لن تعمل الجزيئات الأساسية للحياة مثل الحمض النووي والبروتينات والجزيئات التي تشكل أغشية الخلايا، وما إلى ذلك، بدون الماء.
تنثني مليارات جزيئات البروتين داخل جسمك في الأشكال الصحيحة للقيام بوظائفها، لأن تفاعلها مع الماء يدفعها إلى تشكيل الأشكال ثلاثية الأبعاد الصحيحة.
المياه مادة فضائية
يقول العلماء إن كل الماء على كوكب الأرض من خارجه، وصل الماء إلى كوكب الأرض عبر النيازك والمذنبات التي لم تشكل كواكب مستقلة ثم اصطدمت بالأرض لتبدأ من بعدها أشكال الحياة تدريجياً.
وأخيراً لولا كل هذه السلوكيات الغريبة والمخالفة لقواعد الكيمياء المطبقة على سائر المواد الكيميائية الموجودة على الأرض، لما استمرت الحياة.
وكلما تعمق العلماء في دراسة الماء تعرفوا على غرائبه، ولعل الأكثر غرابة هو أنه العنصر الذي يوفر الحياة على الأرض الذي ما زال عصياً على التفسير.