مثلما يمكن للإنسان أن يعمل على تحسين هيئته الجسدية من خلال ممارسة التمارين الرياضية وألعاب اللياقة على مناطق معينة في الجسم، يمكن كذلك تمرين العقل بصورة معينة تُغيِّر من خصائصة ووظائفه وبشكل كلي، وتجعله يكتسب قدرات جديدة تظل معه على المدى الطويل. وتتم تلك العملية ببساطة من خلال تعلُّم المهارات الجديدة.
ويشترك كل من الموسيقيين والرياضيين وهواة العمليات الحسابية في شيء واحد: التدريب المستمر. إذ يتطلب تعلم العزف على آلة موسيقية أو رياضة جديدة وقتاً طويلاً وصبراً وإصراراً. ويتعلق الأمر كله بعملية المداومة على تعلُّم المهارات الجديدة، سواء كانت مهارات جسدية أو ذهنية.
تركيب الدماغ
يتكون الدماغ البشري بشكل أساسي من حوالي 85 مليار خلية عصبية، وهو أكثر من عدد النجوم التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة في سماء الليل الداكنة. وتعمل تلك الخلايا العصبية بوظيفة المراسل، فهي ترسل المعلومات في شكل نبضات عصبية (مثل الإشارات الكهربائية) إلى الخلايا العصبية الأخرى.
على سبيل المثال، عندما تكتب، تُرسل بعض الخلايا العصبية في دماغك رسالة بـ"تحريك الأصابع" إلى الخلايا العصبية الأخرى، ثم تنتقل هذه الرسالة عبر الأعصاب (مثل الكابلات) إلى الأصابع فتتم الكتابة.
وبالتالي، فإن الإشارات الكهربائية التي يتم توصيلها من خلية عصبية إلى أخرى هي ما يسمح لك بفعل كل ما تفعله: الكتابة، والتفكير، والرؤية، والقفز، والتحدث، وما إلى ذلك.
ويمكن توصيل كل خلية عصبية بما يصل إلى 10.000 خلية عصبية أخرى، مما يؤدي إلى عدد كبير من الاتصالات في الدماغ، فتبدو مثل شبكة عنكبوتية كثيفة، وفقاً لموقع Frontiers العلمي.
كيف تحدث عملية التعلُّم في الدماغ؟
عندما تتعلم شيئاً جديداً، يحدث تغيير مهم في دماغك، بما في ذلك إنشاء اتصالات جديدة بين الخلايا العصبية الخاصة بك. وتُسمى هذه الظاهرة بالمرونة العصبية، وهي قدرة دماغك على التغيير، أي إنشاء أو تقوية أو إضعاف أو تفكيك الروابط بين الخلايا العصبية الخاصة بك.
وكلما تدربت أكثر، أصبحت هذه الروابط أقوى. ومع تقوية اتصالاتك العقلية، تنتقل الرسائل (النبضات العصبية) بشكل أسرع، مما يجعلها أكثر كفاءة. وتُعد هذه هي الطريقة التي تصبح بها أكثر مهارة في أي شيء تتعلمه سواء كان لعب كرة القدم، أو القراءة ، أو الرسم، أو العزف أو التحدُّث بلغة جديدة.
على سبيل المثال، يُعد المشي في غابة غير مأهولة أو مُمهّدة أمراً صعبا للغاية، لأنه يتعين عليك الخطو على النباتات وإزاحة وتقطيع الأغصان ودفعها بعيداً عن الطريق لتشق طريقك. ولكن كلما استخدمت نفس المسار جيئة وذهاباً، أصبحت العملية أسهل وأسرع.
ومثل ذلك تماماً، عندما تتوقف عن استخدام الممر، تنمو النباتات مرة أخرى ويختفي الممر ببطء إلى أن يختفي تماماً ويحتاج إلى عملية التمهيد وتقطيع الأغصان من أول وجديد.
هذا مشابه جدًا لما يحدث في الدماغ بحسب Frontiers – فعندما تتوقف عن ممارسة شيء ما، تضعف الروابط بين الخلايا العصبية في الدماغ ويمكن في النهاية تفكيكها وزوالها. هذا هو السبب في أنه قد يبدو من الصعب جداً البدء في القراءة مرة أخرى عندما تبدأ المدرسة إذا لم تكن قد قرأت طوال الصيف. ومع ذلك، من الممكن أن تصبح بعض الشبكات العصبية قوية جداً بحيث لا تختفي المسارات أو الروابط تماماً حتى بطول الفترات بين كل استخدام.
وبالتالي، فإن الدماغ قادر على التغيُّر طوال الوقت. وتؤدي الممارسة أو التمرين بشكل متكرر إلى تنشيط خلاياك العصبية وتجعلك تتعلم وتتطور.
تأثير تعلُّم المهارات الجديدة في إعادة تشكيل الدماغ
ناثان سبرينغ عالم الأعصاب الأمريكي قام بدراسة عدد ضخم من الأبحاث على الدماغ من أجل تحديد كيف يتغير الدماغ كما نتعلم.
وبالتعاون مع باحثين آخرين، قاموا معاً بتحليل 38 من تلك الدراسات السابقة. واستخدمت كل دراسة منها التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي أو التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني لاستكشاف مناطق الدماغ التي تنشط وتتفاعل عندما يتعلَّم الأشخاص مهام جديدة.
ووجد الباحث وفريقه أن المناطق التي تسمح للناس بالاهتمام كانت أكثر نشاطاً عندما بدأ الشخص في مهمة جديدة، لكن مناطق الانتباه هذه أصبحت أقل نشاطاً بمرور الوقت. وفي الوقت نفسه، أصبحت مناطق الدماغ المرتبطة بأحلام اليقظة وشرود الذهن أكثر نشاطاً حينما أصبح الناس أكثر دراية بالمهمة وطريقة تنفيذها.
ويقول سبرينغ: "في البداية تحتاج إلى الكثير من الاهتمام المركّز، لكن كلما تدربت أكثر، قل تفكيرك فيما تفعله". وعندما نتعلم شيئاً جديداً، تصبح الخلايا التي ترسل وتتلقى معلومات حول المهمة أكثر فاعلية. كما يستغرق الأمر جهداً أقل بالنسبة لها للإشارة إلى الخلية التالية حول ما يحدث. وبمعنى آخر، تصبح الخلايا العصبية موصولة كأنها أسلاك.
ونظراً إلى أن الخلايا في منطقة الدماغ المرتبطة ببعض المهام تصبح أكثر كفاءة، فقد استهلكت طاقة أقل في التواصل. وسمح هذا لمزيد من الخلايا العصبية في منطقة "أحلام اليقظة" من الدماغ بزيادة نشاطها.
وبحسب موقع Science News العلمي، يُصبح من الممكن للخلايا العصبية إرسال إشارات إلى العديد من جيرانها في وقت واحد. على سبيل المثال، قد تنقل إحدى الخلايا العصبية معلومات حول موقع كرة البيسبول التي تطير نحوك. في هذه الأثناء، تنبه الخلايا العصبية الأخرى عضلاتك للاستعداد لضربها بالمضرب. وعندما تشتعل هذه الخلايا العصبية في نفس الوقت، تقوى الروابط بينها؛ وبالتالي تتحسن سرعة البديهة والاستجابة للكرة.
الدوبامين وانتقال المهارة الجديدة إلى المهارات الطويلة
كل شيء تتعلمه يذهب أولاً إلى ذاكرتك قصيرة المدى، وبعضها ينتقل لاحقاً إلى التخزين طويل المدى في عقلك، لتتمكن من استعادته بسهولة خلال حياتك. وبالرغم مما قد يبدو عليه ذلك، لكن غالباً ما يكون للنوم دور محوري للغاية في نقل شيء ما من الذاكرة قصيرة المدى إلى الذاكرة طويلة المدى. ولهذا السبب يمكن أن يحدث فقدان الذاكرة عند إصابة الشخص بحالات تحرمه من النوم.
وبسبب الطريقة التي يجب أن تنتقل بها الذكريات عبر العديد من المشابك العصبية والخلايا العصبية، غالباً ما يحدث التدهور الذي يمكن أن يجعل الذكريات غير مكتملة من خلال عملية النقل نفسها.
ووفقاً لموقع Oprah.com، تتسبب عمليات التعلُّم الجديدة في اندفاع الدوبامين في الدماغ، والذي لا يجعل التعلم يبدو مثيراً للاهتمام فحسب، بل يجعل الشخص أيضاً راغباً في تكرار التجربة.
لذلك يميل الناس إلى الشعور بالملل بعض الشيء عند البدء في تمرُّس المهارة المُكتسبة الجديدة فور ملك زمامها، وهذا يرجع إلى أن عملية التعلُّم نفسها وصلت مرحلة معينة لم تعد كافية فيما تمده للشخص من الدوبامين. ويتم إشباع ذلك من خلال الرغبة في بدء الانتقال إلى تعلُّم المرحلة التالية، أو المهارات الأصعب، أو اختبار مراحل أكثر تطوراً من المهارة الحالية، أو حتى استبدالها كلياً والبدء في تعلُّم شيء جديد من الصفر.
ويشارك الدوبامين أيضاً في مشاعر مهمة نختبرها ونرغب دوماً في الحصول عليها، مثل الشعور بالحب والسلوك الإدماني واضطرابات نقص الانتباه.
عدم التعلُّم هو "التدخين السلبي" الذي يضر الدماغ
كشفت دراسة بحثية بريطانية وفقاً لموقع CCSU التعليمي، أن الشعور بالملل الذي يحدث عادة عندما لا تتعلم أشياء جديدة خلال فترات طويلة من حياتك، يمكن أن يكون خطيراً للغاية على صحة الجسم والعقل على حدٍّ سواء.
واتضح في الدراسة أن الأشخاص الذين أفادوا بأنهم أصيبوا بالملل على مدى فترة طويلة من الزمن خلال حياتهم نتيجة عدم تعلُّمهم أي مهارة أو نشاط جديد يُحفّز ويُدرب عقلهم، جعلهم يعانون من معدلات أعلى في الإصابة بأمراض القلب بلغت نسبتها أكثر من ضعف معدلات أولئك الذين لم يبلغوا عن شعورهم بالملل.
ويؤدي عدم وجود تجارب حياتية جديدة، أو أي نوع من تعلُّم الأشياء الجديدة إلى إبطاء العقل كلياً وجعله أقل استجابة وتفاعلاً، تماماً مثلما تضعف عضلات الساقين عند التوقف عن السير لفترات طويلة من الزمن.
لذلك في المرة المقبلة التي تقرر فيها أن تقوم بتمرين رياضي لتقوية عضلاتك، لا تنسَ نصيب عقلك من التمارين أيضاً.