في فصل الصيف بسيبيريا لا تغرب الشمس أبداً، وتتناثر أشجار الصنوبر والتنوب الطويلة، في واحدة من أخطر الأماكن البرية العظيمة في العالم، ولكن كل هذا الجمال يتآكل -حرفياً- بالتدريج، بسبب نشاط تجاري غير قانوني تشهده المنطقة صيفاً بعد صيف.
ومع تغير المناخ الذي يذيب التربة الصقيعية، ويطيل موسم ما يُسمى بـ"صيد الأنياب"، تكشف الأرض عما في باطنها من عظام وهياكل وجيف مجلدة لحيوانات يعود عمرها لعشرات آلاف السنين، لتقدم صورة واضحة عن العصر الجليدي.
في كل عام تتوجه أفواج من الرجال إلى المنطقة للبحث عن الكنز المخفي: أنياب الماموث الصوفي المتجمدة في التربة الصقيعية أو أي آثار لحيوانات مجلدة، حافظ البرد على هيئتها رغم مرور آلاف السنين.
في صيف 2018، تم اكتشاف شبل أسد يبلغ من العمر 28000 عام مجمد في التربة الصقيعية في سيبيريا، وأذهلت حالته الجيدة جداً العلماء حتى كان بإمكانهم رؤية كل شعر شاربيه.
وعندما تم الإعلان عن الشبل في صيف العام 2021، زعم باحثون في السويد أن الشبل الملقب بإسبارطة هو على الأرجح أفضل حيوان محفوظ تم اكتشافه على الإطلاق في العصر الجليدي.
إذ تم تحنيط الأسنان والجلد والأنسجة الرخوة بالجليد، بل تبين أن الأعضاء الداخلية بقيت سليمة، حسب ما نشره موقع Science Alert.
وإسبارطة ليس الاكتشاف الوحيد -وإن كان الأشهر- من تلك المنطقة.
في السنوات القليلة الماضية أخرج صيادو الكنوز التاريخية جثثاً لوحيد القرن والذئاب والدببة البنية والخيول والرنة وثور البيسون من التربة الصقيعية، بعضها يعود إلى 40 ألف عام، وهو ما يدل على أن هذه السهوب الجليدية كانت ذات يوم موطناً للعديد من الثدييات الكبيرة.
لعقود من الزمان، كان سكان هذه الأرض المتجمدة، حيث تنخفض درجات الحرارة بانتظام إلى ما دون 30 درجة مئوية تحت الصفر، غالباً ما يعثرون على بقايا الماموث الصوفي التي ماتت قبل 10 آلاف سنة.
ولكن مع ذوبان الجليد تكشف سيبيريا عن كنوزها القديمة أسرع من أي وقت مضى، وبسبب الطلب الصيني على العاج يتسابق صائدو الأنياب لاستعادة ما يسمى بـ"العاج الجليدي"، حسب ما نشره موقع مجلة Science Focus.
صيد الكنوز من العصر الجليدي
لكن هذه التجارة التي ازدهرت على أطراف الكرة الشمالية ليست بالسهولة التي تبدو عليها النتيجة، بل هي عمل قذر ومضنٍ بكل ما للكلمة من معنى.
ينام الصيادون في خيام مؤقتة، ويعيشون على لحم البقر المعلب والمعكرونة والفودكا، ويعملون بشكل غير قانوني ويمزقون بقايا الماموث من الأرض بمستوى من القوة الغاشمة لم يسبق له مثيل من قبل.
بعد ذلك يبيعون أنياب الماموث بأرقام ضخمة.
وقبل خمسين ألف عام بدت سيبيريا مختلفة تماماً عما هي عليه اليوم.
وبدلاً من الغابات وأشجار المنطقة المسماة بـ"تندرا"، كانت المنطقة مغطاة بالأراضي العشبية الخصبة والتربة الخصبة، وكانت قطعان الماموث الصوفي تجوب السهول المفتوحة.
ثم شيئاً فشيئاً، ومع قرب نهاية العصر الجليدي الأخير، بدأت أعداد الماموث تتناقص بدون معرفة السبب الحقيقي.
يلقي البعض باللوم على الصيد البشري وبعض التغيرات المناخية، والبعض الآخر يلوم السببين.
ولكن، ما يؤكده العلماء هو اختفاء هذا الحيوان من سيبيريا قبل 10 آلاف عام، وتُعد حالياً مقبرة ضخمة للماموث، إذ تشير التقديرات إلى أن بقايا مئات الآلاف من الحيوانات الفردية مدفونة في التربة الصقيعية، حسب موقع Wired.
في المستوطنات التي تحولت إلى مدن أشباح بعد سقوط الشيوعية، قدمت أنياب الماموث شريان حياة للسكان الأصليين في المنطقة، الذين لا يزال يُسمح لهم قانوناً بجمعها.
يمكن أن يغير ناب واحد حياة الرجل في ريف سيبيريا، حيث يبلغ متوسط الراتب الشهري حوالي 500 دولار.
يمكن للأنياب التي يبلغ وزنها 65 كغم أن تصل إلى ما يزيد عن 30 ألف دولار، ونتيجة لذلك انتشرت حكايات وأحلام "الثراء السريع" لجذب سلالة جديدة من الصيادين الذين يصلون بالقوارب إلى المنطقة النائية.
ومن الصعب معرفة هوية الصيادين الجدد أو عددهم، يقول رئيس متحف الماموث في الجامعة الفيدرالية في سيبيريا سيميون غريغورييف: "إن تجارة أنياب الماموث موضوع صعب للغاية، إذ يعمل معظم صيادي الأنياب بشكل غير قانوني، وبعيداً عن العيون".