عُرف الخديوي إسماعيل بحبه للفن، والصناع المبدعين، فكان قصره العالي بجاردن سيتي صورة منسوخة منه، يجتمع فيه بالفنانين والصانعين أصدقائه، والذين كان من أبرزهم الشيخ علي الوقاد.
من القصر العالي إلى صحراء المماليك
بدأت علاقة الشيخ علي الوقاد بعائلة الخديوي بتوريده الأثاث المُصنع بالخيزران والبامبو إلى قصورهم، وامتدت إلى أن أصبح هو مُورد الخيزران الرسمي للجيش المصري حينما كان يعتمد عليها الجنود خلال القرن التاسع عشر.
وبحكم تردد الوقاد على ملتقيات السهر وجلسات السمر بالقصر العالي، تطورت علاقته بالخديوي إسماعيل تحديداً، إذ شاركه الخديوي في تجارة البامبو، ثم أصبحت علاقة صداقة قوية.
سنة 1880 صدر أول قرار يهدد القصر العالي عندما أفلس الخديوي إسماعيل ونُفي خارج البلاد، حينها قررت الحكومة المصرية سحب القصر من الخديوي وعُرضت محتوياته الثمينة في مزادٍ علني.
لقد كان القصر العالي أكثر من مجرد مبنى بالنسبة للشيخ علي، فعزّ عليه أن يراه يذهب سُدى، فعرض على الحكومة أن يشتري بوابات القصر، وحاول أن يجمع كل ما يستطيع منه واحتفظ به في منزله.
فكك علي الوقاد جدران القصر وبواباته، ونقلها لصحراء المماليك (المنطقة المقابلة لقلعة صلاح الدين الأيوبي)، واشترى عدة أغراض من القصر كان من بينها حوض استحمام.
كان من الممكن أن يبني الوقاد قصراً مطابقاً للقديم، لكن القيمة كانت بين الجدران نفسها وما تحمله من ذكريات وأوقات مع صديقه ورفيقه الخديوي إسماعيل، نوع نادر من الوفاء للصداقة في نفس الشيخ التاجر.
عاش الشيخ علي الوقاد وأسرته الكبيرة بين أطلال القصر العالي بصحراء المماليك، حيث بنى منزلاً رحباً يتسع للعائلة.
تاريخ القصر العالي
بُني القصر العالي على يد إبراهيم باشا سنة 1829، وعُقد فيه أول مجلس للمشورة سنة 1829م، وبعد وفاة إبراهيم باشا أصبح القصر مملوكاً للحكومة المصرية، فقرر الوالي عباس حلمي الأول وهبه إلى الأمير إسماعيل، الخديوي إسماعيل لاحقاً.
عندما تولى إسماعيل الخديوي حكم مصر وهبه إلى الوالدة باشا، خوشيار
هانم، التي اعتنت بالقصر كثيراً ورممته سنة 1863م، بعدما تلفت جوانبه من جراء فيضان النيل.
وعند إفلاس الخديوي إسماعيل، قررت الحكومة سنة 1880م استرداد القصر مرة أخرى لسداد ديونه، وتم عرض محتوياته في مزاد علني سنة 1900م، تهافت عليه أغنياء وتجار مصر لشراء تحفه الفنية.
سنة 1906 اشترت شركة استثمارية القصر لهدمه وتحويله لمنطقة سكنية
عامرة بالفيلات والقصور الفاخرة التي ما زال يوجد بعضها حتى الآن بحي جاردن سيتي، حينها قرر الشيخ علي شراء واجهة القصر ببواباته الثلاث، ونقله لصحراء المماليك، فأصبحت واجهة القصر العالي بكل تفاصيلها هي واجهة قصر الشيخ علي.
الشيخ الوقاد والخديوي.. صداقة نادرة
تعددت روايات أصل الشيخ علي الوقاد، فبحسب رواية حفيده محمد الوقاد البالغ من العمر 38 عاماً فإن أصول العائلة تعود إلى تركيا، لكنها استقرت في الجزيرة العربية، ثم انتقل والد الشيخ علي إلى مصر مع أسرته عندما كان طفلاً.
ذاع صيت عائلة الوقاد بالعمل في إنارة المصابيح بالزيت، فأطلق عليهم لقب الوقاد نسبة إلى إيقاد نور المصابيح واشتهروا بذلك في شبه الجزيرة العربية تحديداً، وعندما انتقلت عائلة الوقاد إلى مصر استقرت في مدينة بني سويف.
وعن قيمة الشيخ علي الوقاد بين التجار في مصر يقول محمد إن "جده كان يملك السجل التجاري رقم 3، أي أنه ضمن أول ثلاثة سجلات تجارية في مصر، ما يدل على مدى حجم تجارته التي تتطلب سجلاً تجارياً لتيسيرها".
"واشتهر الشيخ علي بصناعة البامبو والخيزران، فأسس ورشة لتعليم صنعتهما، لكنه كان يستورد أعداداً كبيرة من الأخشاب من إندونيسيا والهند لاستخدامها في صناعته"، على حد قول حفيده.
بعد كبر حجم تجارة الشيخ علي واحتياجه إلى التواجد في القاهرة بشكل مستمر اشترى أرضاً في صحراء المماليك لتكون بالقرب من وكالته بجوار مسجد الحسين، فبنى بيته الكبير الذي وصل طوله إلى 100 متر وعرضه إلى 76 متراً.
عندما تمر من البوابة الأولى تجد بقايا مسجده الذي دمره الزلزال على يمينك، والورشة والمخزن على يسارك، ثم الحديقة بها بقايا الأشجار بالبوابة الثانية، وبالبوابة الثالثة تجد حوض الاستحمام في إحدى الزوايا، وبجواره هيكل خارجي لسيارة "فورد" بموديلها القديم.
اشتهر الشيخ علي بأعمال الخير، فأسس مخبزاً لتوزيع الخبز على المحتاجين، كما أنه لم يطالب المدينين بأي جنيه، ووصّى بعدم استرداد هذه الأموال، كما عمل على تمهيد الطريق من منزله بصحراء المماليك لوكالته بالحسين، حيث لم يكن هناك من يسكن في هذه الصحراء غيره.
وعن عائلته الكبيرة يقول محمد الوقاد إن جده كان له من الأبناء ستة عشر، ومن البنات أربع، وذلك نتاج أربع زيجات، لكنه لم يجمع بين زوجتين قط، رغم شيوع الأمر وتقبله في هذه الفترة الزمنية فكان يتزوج عندما ترحل زوجته.
وقد يزول العجب عند معرفة أنه قد تجاوز المئة عام من العمر، وتوفي ودُفن بالمقابر الملحقة بمسجده عام 1921 ميلادياً / 1340 هجرياً.