في الوقت الذي أصبح فيه استخدام الهاتف المحمول هو السمة السائدة على البشر في الأماكن العامة والخاصة وفي مختلف مواقيت وساعات اليوم، سلط بحث جديد الضوء على نوعية الارتباط القوية بهذه الأجهزة، وكيف تطورت حتى أصبحت تنافس مشاعر البشر تجاه منازلهم الشخصية.
"منزلك" أصبح في جيبك
كشفت دراسة جديدة نشرتها مجلة UCL، أن مستخدمي الهواتف المحمولة الذكية أصبحوا بمثابة "حلزون بشري يحمل منازله وبيته الشخصي في جيبه"، مع ميل واسع بينهم إلى تجاهل الأفراد من دائرة الأصدقاء والعائلة المقربين لصالح الارتباط بأجهزتهم.
وقضى فريق من علماء الأنثروبولوجيا من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس أكثر من عام في توثيق استخدام الهواتف الذكية في 9 دول حول العالم، بداية من أيرلندا ووصولاً إلى دولة الكاميرون، ووجدوا أنه علاوة على كونها ألعاباً محببة لمالكيها شعر الناس بنفس الشعور تجاه أجهزتهم كما شعروا تجاه منازلهم.
وقال أستاذ الأنثروبولوجيا دانيال ميلر، الذي قاد الدراسة: "لم يعد الهاتف الذكي مجرد جهاز نستخدمه، لقد أصبح المكان الذي نعيش فيه بصورة واضحة".
موت التقارب والحميمية والتواصل وجهاً لوجه
وتابع الباحث أنه بالإضافة لذلك، فإن استخدام الهاتف المفرط أصبح مؤثراً بشكل كبير على العلاقات الإنسانية، إذ بات طبيعياً اليوم أثناء تناول وجبة، أو خلال اجتماع أو أي نشاط مشترك آخر يجمع الفرد بعدد من الأشخاص الآخرين، أن يقرر الاختفاء ذهنياً من بينهم، بعد أن يقوم باستخدام الهاتف وينخرط فيه، وكأنه قد انصرف عنهم وعاد إلى "منزله".
وتابع ميلر أن هذه الظاهرة أدت إلى "موت التقارب والحميمية" عندما يتعلق الأمر بالتفاعل والاحتكاك والتواصل مع الآخرين وجهاً لوجه.
وقال ميلر في نتائج الدراسة إن "هذا السلوك، والإحباط وخيبة الأمل أو حتى الإساءة التي يمكن أن يسببها لدى الآخرين أصبحت بمثابة إعلان موت للحميمية والتقارب".
معتبراً أن الخطر يتمثل تحديداً في أنه حتى عندما نكون معاً جسدياً يمكننا أن نكون وحدنا اجتماعياً أو عاطفياً أو مهنياً.
وحول أسباب هذا التحول يتوقع الباحثون أنه قد يكون بسبب تطبيقات الدردشة المباشرة مثل WhatsApp، التي يسمونها "قلب الهاتف الذكي"، وذلك لأن استخدامات هذه النوعية من التطبيقات يعمل بمثابة المنصة التي يجتمع عليها أفراد العائلة والأصدقاء المقربون وحتى فرق العمل، ويرسل خلالها الآباء المتفاخرون صوراً لأبنائهم وأحفادهم، كما يستخدمها الشباب في نقاشاتهم اليومية.
لذلك باتت تطبيقات النقاش المباشر بمثابة الوسيلة التي يمكن من خلالها أن تظل متواصلاً على مدار الساعة، حتى لو كنت تعيش في بلد آخر وفي توقيتات زمنية مختلفة.
مختلف الفئات العمرية مرتبطة بالهواتف الذكية
وعلى عكس غالبية الدراسات التي بحثت في أبعاد وتبعات استخدام الهواتف الذكية، ركزت تلك الدراسة بشكل خاص على كبار السن، أو الذين يعتبرون أنفسهم قد تجاوزوا مرحلة "الشباب".
ورغم أن التركيز على كبار السن قد يبدو غريباً بسبب الاعتياد على التركيز على الشباب في الاستخدام المفرط للهواتف الذكية، واعتبارهم الشريحة الأبرز في هذا الموضوع، فقد ساعد التركيز على كبار السن في كشف أن الهواتف الذكية أصبح يمكن اعتبارها ملكية للبشرية جمعاء وليس لفئة عمرية بعينها.
وبالفعل فقد أثبت الباحثون أن الهواتف الذكية حول العالم باتت من الضروريات الأساسية للحياة. وخلصوا إلى أن "الهاتف الذكي ربما يكون هو أول شيء ينافس منزلة وأهمية المنزل نفسه (وربما أيضاً مكان العمل) من حيث مقدار الوقت الذي نقضيه عليه أثناء الاستيقاظ".
الهاتف ليس "ملاذاً آمناً للراحة" مثل منازلنا
ويصف الباحثون كيف يمكن أن يكون هذا "المنزل" الافتراضي هو أبعد ما يكون عن "مكان الراحة"، وذلك لطبيعة اتصالات العمل وتطبيقات التواصل الاجتماعي عبر الهواتف في اختراق راحة الشخص وهدوئه والتعدي على مساحته.
ويقلل الهاتف الذكي من مفهوم "المنزل" كملاذ آمن ومريح، إذ من المتوقع الآن أن يظل الموظفون على اتصال بعملهم ماداموا متصلين بالإنترنت عبر الهاتف، وذلك حتى بعد مغادرة مكان العمل وانتهاء مواعيد الدوام اليومية.
وحذّر ميلر من وجهة النظر السلبية المفرطة، قائلاً: "يساعدنا الهاتف الذكي في إنشاء واكتساب مجموعة واسعة من السلوكيات المفيدة والعادات النافعة، مثل إعادة التواصل والترابط مع العائلات الممتدة والأشخاص الغائبين في دول أخرى، وكذلك توفر الهواتف مساحات ممتعة للتواصل والمتابعة والنقاشات الثرية وكسب المعلومات أو البحث عن فرص للعمل والربح.
ومع ذلك وفقاً لنوعية الاستخدام ومدى ارتباط الشخص بالهاتف واستغلاله بالصورة المثلى مقابل الانخراط فيه بشكل سلبي وفاقد للسيطرة، تتحدد حينها عواقب الهواتف الذكية على حياة الناس في جميع أنحاء العالم".