في وسط المدينة الواقعة على حوض المتوسط، وفي قلب ساحتها الأساسية وعند مدخل مبنى "سلطان الأثري" الذي بني في عام 1899، يكمن مقهى فهيم التراثي بمدينة طرابلس شمالي لبنان، فالأثاث الرث في المقهى وكل البنى التحتية قد أكل الدهر عليها وشرب منذ عهد العثمانيين الذين شيدوا هذه المساحة لإنشاء "البنك العثماني" بوسط المدينة ليتحول في عام 1906 الى مقهى "فهيم آغا".
يجلس في المقهى رواده الذين عرفوه منذ سنوات بعيدة، على الرغم من إقفاله لسنوات عديدة نتيجة ظروف ألمت بمالكي المقهى، إلا أنه عاد وفتح أبوابه أمام الزوار بعد قيام أحد المستثمرين المحليين بإعادة تشغيله، يروي خضر شعراني، المشرف على المقهى الأثري، أنه يشهد يومياً حركة كثيفة لأبناء المدينة فهو يعتبر على مدخل أسواقها التاريخية، ويستقطب في الأيام الأولى من رمضان تجار الأسواق والعمال وأبناء الأحياء القديمة بالمدينة، فيما يتوقع شعراني أن يكون المقهى في العشر الأواخر من الشهر الكريم مقصداً للعائلات التي ستأتي للتبضع للعيد وشراء احتياجاتها.
في وسط المقهى المزدحم يجلس محمد رجب، وهو تاجر ألبسة بالأسواق الداخلية للمدينة القديمة في طرابلس، مع رفاق يومه بعد التراويح، محتسياً الشاي المغلي على الطريقة اللبنانية كما تعود عليها معظم سكان المدينة، ويسرد ذكرياته في هذا المقهى التاريخي الذي يعود للعهد العثماني، يتذكر حين كان يزور المقهى في شبابه مع أصدقائه الذين غادر معظم لبنان بسبب الواقع المأساوي الذي يمر على لبنان، يغيب عن طاولته رفاق الدراسة والعمل والكفاح بين من توفى بسبب الكورونا أو من غادر البلاد بحثاً عن استقرار مالي واجتماعي.
فيما صاحب المقهى، خضر شعراني، يؤكد أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بالبلاد خفضت نسبة الإقبال مقارنة بالأعوام السابقة، لأن كل الاحتياجات والمواد كالقهوة والشاي والسكر باتت أسعارها خمسة أضعاف منذ بداية الأزمة، لكنه لم يرفع أسعار ما يقدمه سوى ضعفين ونصف؛ كي يحافظ على الزبائن في المقهى الذي بالوقت نفسه يعيل أكثر من 10 عائلات يعمل أفرادها في المكان .
مقهى التل عليا .. مقهى تاريخي للمثقفين اللبنانيين
لم تتبدل ملامح "مقهى التل عليا" القائم وسط مدينة طرابلس منذ أن أنشأته الدولة العثمانية عام 1870، حيث يقال إن الهدف من بناء هذه الفَسحة كان في البداية هو تحويلها صرحاً بلدياً لنشاطات إمارة طرابلس حينذاك، ولكن مشكلة بين القائمين عليها أدت لتحويلها إلى مقهى.
وما زالت هذه الفسحة المفتوحة على مداها والمقسمة إلى أجزاء عدة، المتنفس المحوري في حياة أبناء المدينة والقرى المجاورة لها وتحديداً نخبها المثقفة، حيث كان المقهى منتصف القرن الماضي وصولاً لأوائل الثمانينيات، مقراً ثقافياً للنخب المثقفة من اليمين إلى اليسار.
وتسمية المقهى التاريخي تعود إلى وجوده على تلة تشرف على مدينة طرابلس وساحة منطقة التل تحديداً بازدحامها وشعبيتها ومحالها التجارية وعشرات العربات المنتشرة في أزقتها عارضةً المنتجات المحلية المتنوعة والجذابة في تغليفها الخارجي.
في شهر رمضان المبارك ومنذ أوائل القرن الماضي، كان المقهى الذي يضم مصلى صغيراً في وسطه، يشهد حركة كبيرة عن الأشهر التالية، ويكون محطة أساسية لمجموعة كبيرة من مثقفي المدينة ونخبها الشعبية، وعلى أطراف "البحرة" التي يتزين بها وسط المقهى يجلس أسامة (محامي يبلغ 55 عاماً) ويروي تاريخ هذا المكان المزين بالإنارة الرمضانية الكثيفة، ويؤكد أنه كان يأتي مع والده وأعمامه إلى المكان في طفولته لحضور جلسات إنشاد صوفية ومدائح رمضانية منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
وبحسب أسامة فإن المقهى أغلق لثلاث سنوات خلال سيطرة حركة التوحيد الجهادية على المدينة (من العام 1982 وحتى العام 1985) في مرحلة الحرب الأهلية التي شهدها لبنان، حيث كان يحضر إليه شبان ونخب يسارية وقومية في تلك المرحلة، وأعيد فتحه عقب الدخول السوري للمدينة مطلع عام 1987، وعاد للعمل بشكل كبير. يؤكد أسامة أنه صار من "أهل المكان" في رمضان ويأتي مع عائلته إليه، وعندما يغيب لسبب أو لآخر يشعر بالضيق، حيث يسأل عنه رفاقه ويقلقون عليه، لأنهم اعتادوا رؤيته باستمرار، فيما زوجته تدخن "النرجيلة" في الفسحة المخصصة للنساء، وهو يلعب "ورق الشدة" مع أولاده وأولاد أخيه، وأن أصدقاءه المسيحيين وزملاءه من الطوائف الأخرى يرفضون القدوم بعد الظهر إلى المكان؛ "احتراماً لمشاعرنا وصيامنا وهذا ما يميز المدينة".
ووفق ذاكرة المحامي اللبناني فإنه وخلال مرحلة دراسته الجامعية كان المقهى مكاناً للدراسة الجامعية مع أساتذة الجامعة الذين كانوا يترددون إلى المكان لتدريس طلابهم والاستماع لأسئلتهم العالقة من المحاضرات.
المدينة وعبق التاريخ.. "الانهيار لن يمنعنا من الحياة"
إلى جانب أسامة يجلس عبدالرحمن المحمد، وهو صحفي في مؤسسة إعلامية محلية، ويسرد أن المقهى هو آخر ما تبقى من صور المدينة القديمة التي باتت تعيش حالة فقر مدقع وتزداد فيها نسب البطالة المخيفة والتي تهدد الأمن الاجتماعي للمدينة، وفق المحمد فإن المقهى يقدم في رمضان مشروبات باردة كالعصائر الطبيعية وشراب "قمر الدين" المتعارف عليه محلياً في شهر رمضان وهو شراب المشمش المجفف .
لكن المحمد يرى أن زيادة الأسعار في المقاهي القديمة بسبب أنها مضطرة إلى الحفاظ على جودة ما تقدمه للزبون في ظل الغلاء الفاحش، بسبب انخفاض قيمة الليرة المحلية مقابل الدولار، لكن المحمد يرى أن اللبنانيين- وتحديداً أبناء طرابلس- يتميزون بأجوائهم الرمضانية المميزة وأنهم مصرون على ممارسة طقوس رمضان، حيث يشكل المقهى الشعبي جزءاً من وعيهم الجمعي الرمضاني، لأن طرابلس تعد من أهم الحواضر العربية التي تمتلك طقوساً رمضانية مختلفة تميزها عن باقي المدن، ويختم المحمد بالقول إن المدينة مختلفة بكل شيء ولم يشاهد هذه الأجواء المميزة والمقاهي المزدهرة إلا في القاهرة ودمشق، بسبب طبيعة المدن العربية المسلمة.
"مقهى موسى" الشعبي.. السحور المتواضع وضيوف من شتى المدن
منذ أيام تنتشر مقاطع الفيديو التي تُظهر الازدحام والتلاصق في مقهى موسى الشعبي فبعاصمة لبنان الثانية طرابلس. المقاطع واجهت حينها انتقاداً واسعاً، حول غياب الدولة عن تنفيذ إجراءات السلامة، لكن الواقع هو أن المقهى الذي يعود تاريخ إنشائه لستينيات القرن الماضي يكتظ برواده.
ما هو جديد في المنطقة الشعبية والفقيرة أنها باتت محطة لروادها من مدن لبنانية مجاورة وحتى من العاصمة بيروت، فالقرار الرسمي للحكومة الذي يقضي بالإغلاق بعد الإفطار، لم تلتزم به طرابلس بسبب ضيق الأحوال والواقع المأساوي، حتى إن المدينة باتت تشهد تجمعات للبائعين في كل المناطق الشعبية المهمشة.
من قلب تلك الأحياء يروي سامي عبيد، وهو شاب من طرابلس يعمل في فرن "للمناقيش"، أنه ينتظر رمضان ليضاعف مدخوله. وفق عبيد فإن رمضان شهر بركة وعلى الرغم من ضيق الأحوال والأوضاع الصعبة فإنه يبيع الفطائر للصائمين على السحور بجانب مقهى موسى الشعبي، وإنه اضطر إلى رفع أسعاره بعد غلاء مواد الفطيرة من الجبن والزعتر والسبانخ فيما أسعار الطحين تزداد يوماً بعد يوم، لكن الشاب سامي يعتبر أن رمضان موسم لا يمكن تعويضه، فيما جاره يبيع فطائر اللحم يرفض سامي بيع الفطيرة نفسها؛ احتراماً لجاره الفقير الذي يعتاش من بيع الفطائر باللحم بجانب المقهى.
"نتحدى كورونا.. والدولة تخنق إرادة الحياة"
يتحدث أحد رواد المقهى فيقول إنه يعمل في مهمة تصليح السيارات وإنه ينتهي من العمل قبيل الإفطار بساعة واحدة ثم يصلي التراويح، ويتوجه لمقهى موسى ليشرب "النرجيلة" مع القهوة ثم يتبعها بشراب "الجلاب" مع الثلج وهو مصنوع من دبس التمر، والمشهور في طرابلس منذ 4 قرون، كان سعر الشراب 1000 ليرة لبنانية ومع غلاء الأسعار يروي الرجل أنها باتت 5000 ليرة لبنانية، أي إنه يدفع من قوته اليومي، لكن هذا الشراب يصنع في رمضان ولا يمكن التخلي عنه. وعن الازدحام وما قد ينتج بسبب فيروس كورونا يعلل الرجل مخالفة قرار الحكومة الإغلاق العام،بالقول: "الحكومة أضاعت أموالنا في المصارف، والسياسيون يرفضون تشكيل الحكومة قبل تحقيق شروطهم على حسابنا ويوقفون فرصة دعم الخارج للشعب الجائع ومن ثم يطالبوننا بالإغلاق!".
المدينة أزيلت من اللوائح السوداء الغربية.. حركة سياح أجانب
كان لافتاً منذ أسابيع، أن سفارة الولايات المتحدة الأمريكية وسفارات دول الاتحاد الأوروبي التي يزور سفراؤها المدينة بانتظام، أزالوا المدينة من قائمة المدن غير الآمنة بعد أحداث دامية شهدتها طرابلس خلال سنوات ماضية، بين منطقتي باب التبانة وجبل محسن ما بين عامي 2010 و2014. وبحسب مصدر بلدي محلي فإن المدينة تشهد حركة سياح أجانب يرتادون مساجدها وأسواقها القديمة والمقاهي الشعبية خلال شهر رمضان المبارك، وفق المصدر.