أقف أمام المرآة شاعراً بالخجل، أدقق في تفاصيل وجهي فأكاد أرى الذنوب تتحدث عن نفسها، أخفض رأسي لأنني لا أستطيع رفعه من الثقَل الذي أحمله على عاتقي، وأعود أسأل نفسي بينما أتوضأ، هل تتساقط الذنوب حقاً مع قطرات الماء؟ أم تحول بينه وبين وجهي الحقيقي؟ معقول أن كل ما أغسله خمس مراتٍ في اليوم هو ذلك القناع لا أكثر؟
أفرش سجادتي، وأقف للصلاة، ما الذي يدعو إلى البكاء في الفاتحة؟ الأئمة يبدأون في التباكي بعدها، أما أنا فأقف باكياً في البداية، أقول "بدأنا نكدب"، لا أصدق أنه ما زال فيّ شيء صادق، أنه ما زال عندي شعور ولو بسيط جداً، متناهي الصغَر، بالعبودية لذلك الإله العظيم الذي أقف الآن بين يديه، أخفض رأسي من الكسوف لا الخشوع، وأقول وسط الآيات "يا رب".
في هذا الوقت شعرتُ بأن القراءة لا يجب أن تطول، "نخشّ في الموضوع على طول"، أنا أريد السجود، أنهي هذه المشاكل التي لديّ، ثم أطيلُ ما شئتُ في صلاةٍ أخرى، الآن في هذه الصلاة، في صلاة العودة، في الرجوع من إصابة، أريد الخلاصة، أين الدواء؟ هنا، فاسجد واقترب، فأسجد وأقترب، وأبدأ بعرض ظلمي، أنا الظالم الذي يذهب إلى ديوان المظالم، يالبجاحَتي! أسرد الظلم الذي أوقعته، أقول يا رب ظلمتُ نفسي في كذا وكذا، وارتكبت جناية في كذا وكذا، كلها في حق نفسي، وأخرج من صلاتي أتحسس وجهي، أشعر ببشرةٍ حقيقيةٍ، خاوية من المركبات الكيميائية، ومن القناع البلاستيكي الشفاف جداً.
ويقولون رمضان، ونقول أهلاً، ونستبشر بالفرصة التي تصفّد فيها شياطيننا، وتكبل فيها أنفسنا بقناع الخجل، لا يمنعنا عن المعاصي هذه المرة إلا ذلك الخجل الرقيق، أتعصي وأنت صائم؟ يا أخي اتكسف على دمك، فأستحي، والله يعلم صدق هذا الخجل، ويعلم أن غبار معاركي مع نفسي أكرم لي من نضرة الوجه المزيفة، حين لا يكون الوجه حقيقياً بالمرة.
وأرى بعض العيون تنظر إليّ، يبتسمون فقط، لا يقولون شيئاً، لكن الابتسامة تقول كل شيء، تقول مثلاً "عامل فيها شيخ؟"، "عشنا وشفنا"، من برة هالله هالله ومن جوة يعلم الله"، وأقول بالفعل، صدقتم "من جوة يعلم الله" كم هذا الإنسان ضعيف، وكم يجاهد، وكم يحاول، وكيف هو من البشر، غير معصوم على الإطلاق، الله بذاتِه لم يطلب منه العصمة، طلب منه المحاولة، محاولة أن يكون على صواب، محاولة أن يتجنب الخطأ، فمن أين أتيت بحق طلب العصمة منه يا رجل؟
يزايدون عليك، وأنت تزايد على نفسك، ولا تفهم المعادلة بالضبط، فتختار الطريق الأسهل، وتريح عقلك من الصراع الذي بداخله، كالذي يتخلى عن سيفِه خشية أن يُخدَش، ولو قاتل به لانتصر، كالذي يتخلى عن أرضه خشية أن يفقدها، كالذي يعمل بالمثل القائل "الباب اللي تجيلك منه الريح، سدُّه واستريح"، فيسده، لكن لا يعلم أن الاستراحة كانت في تركه مفتوحاً.
بالنسبة للناس، فإنه لا أحد يرضى بودّك المتقطع، لا أحد يصبر على بعدك الكبير وقربك الطارئ، لا أحد يقدر على أن تودّه يوماً وتهجره شهراً، لكن لله المثل الأعلى، الله عز وجل، بذاتِه، يقول لك هذه مواسم عبادتي، تقصيرك فيما سواها تجبره باجتهادك فيها، تعالَ واستغفر، أذنبت؟ لا بأس، أتبع السيئة الحسنة تمحها، أسرفت؟ "وإسرافَنا في أمرنا"، عدت للذنب؟ عد للتوبة، وهذا رمضان، صمه وأقمه، ولا تحمل هم الأحد عشر شهراً التي قاومتَ فيها، أخطأت وأصبت، سقطت حيناً ووقفت حيناً، أنت منتصرٌ ما دمتَ تقاتل.
نستشيَخ؟ وما المشكلة في أن أكون شيخاً ولو مرة في العام؟ وما علاقة ذلك بالنفاق؟ المنافق هو الذي يزعم الانتصار وهو لا يمسك سيفه، هو الذي يتحدث عن فوزه رافعاً أنفه، وهو في الأصل وجهه في التراب، أما المنتصر فهو الذي يمسك سيفه ولو كان مخضباً بالدماء وساقطاً في حفرة ويحاول الصعود حيناً ويركن إلى البقاء حيناً، تعريف الانتصار عند الله مختلف، والحمد لله أنه لم يتركه للبشر أن يعرفوه.
يقولون "ماتستشيخلناش"، وبقدر ما قراءة الكلمة صعبة فإن واقعها مثلها صعب ووقعها ثقيل، أنا لا أستشيخ لك، هذا الاستشياخ لله، ثم لنفسي، لأنني أعرف ماهيتي، أعرف أنني إنسان عادي، لستُ نبياً ولا ملكاً، والله يعاملني على هذا الأساس، فلمَ تعاملني بغيره؟
من فضلكم، استشيخوا، وهذا رمضان موسم "الاستشياخ"، لا تضيعوا الفرصة لأن آخرين يقولون لكم كذا وكذا، هم لا يملكون خزائن رحمة ربك، لا يقسمون الحسنات والسيئات، الله وحده الذي يفعل، وبالتالي يا سيدي فإن الله حين يقول، يكون السماع له وحده أَوْلى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.