من المعروف أن البقاء في الطبيعة وزيارة الحدائق أو الاحتكاك بالحيوانات الأليفة يحسِّن من مزاج الإنسان بشكل ملحوظ. إلا أن دراسات علمية عديدة كشفت أن أثر تواصلنا مع الطبيعة قد يسبب أكثر من مزاج رائق. إذ من الممكن لساعة واحدة من الهواء الطلق أن تحسّن من الحالة النفسية والقدرات العقلية والجسدية للإنسان بشكل يجعلنا بالفعل نتعامل معها على أنها "إكسير للحياة".
التخفيف من حدة الألم
ويكون الأشخاص الأكثر ارتباطاً بالطبيعة هم الأكثر سعادة وحيوية ولديهم معنى أكبر في حياتهم يجعلهم أقوى في التعامل مع مجريات الأمور. فحتى بالجرعات الصغيرة المتمثلة في بعض النباتات والزهور أو النوافذ المُشرعة على السماء، اتضح أن الطبيعة يمكنها تخفيف حدة الألم بشكل ملحوظ وتسهيل عملية التعافي.
وفي الدراسة التي أجرتها جامعة مينيسوتا عام 2016، على مرضى خضعوا لجراحة في المرارة، تم منح نصف المرضى أسرّة مطلة على الأشجار والنصف الآخر كانت أسرّتهم مطلة على الحائط. وثبُت أن المرضى الذين حدّقوا في الأشجار بعد الخروج من الجراحة تعاملوا مع الألم بشكل أفضل وطوروا أعراض جانبية أقل، وفي النهاية قضوا وقت أقل في المستشفى.
وفي بحث عن تأثير الطبيعة على الجسم نشرته مجلة NCBI العلمية من خلال تحسين النفسية، اتضح أن الأشخاص الذين يمارسون الرياضة في الهواء الطلق كانوا أقل إجهاداً وبالتالي لديهم فرص أقل للمعاناة من السمنة والحالات الأخرى ذات الصلة، مثل أمراض ضغط الدم والسكري واضطرابات المعدة وتوتر العضلات، وحتى تقليل معدلات الوفاة.
علاج التوتر والإجهاد
وتتحكم البيئة المحيطة بنا في درجة الإجهاد التي نعانيها، ما يؤثر بدوره على سلامة أجسامنا ومشاعرنا على حد سواء. إذ تستطيع الأماكن التي نتعرض لها تغيير كيفية عمل جهازنا العصبي والغدد الصماء والجهاز المناعي والتحكم في هرمونات الجسم.
وتقول مجلة NCS لعلوم الاجتماع أن الضغط الناتج عن الجلوس في بيئة غير مريحة يتسبب في إشعارنا بالقلق أو الحزن أو العجز. وهذا بدوره يرفع ضغط الدم ومعدل ضربات القلب ويسبب توتر العضلات وتراجع فعالية جهاز المناعة، وبالتالي نكون أكثر عرضة للشعور بالإعياء والإجهاد.
وبغض النظر عن العمر أو الثقافة، فإن البشر يجدون الطبيعة مُبهجة ومريحة للأعصاب. في دراسة علمية تم الاستشهاد بها في كتاب "الحدائق الشافية – Healing Gardens"، وجد الباحثون أن أكثر من ثلثي الناس يختارون الطبيعية للتعامل مع شعورهم بالإجهاد، وشعروا بأنهم تخلصوا من مشاعر الغضب والخوف والتوتر ولاحظوا ارتفاع شعورهم بالمتعة والاطمئنان. وسبب هذا التأثير أثبتته دراسة لمركز الصحة البيئية والطب الوقائي (EHPM)، إذ وجدت أن الطبيعة تقلل من إنتاج أجسادنا لهرمون الكورتيزول، أحد أهم هرمونات التوتر في الجسم، ولذلك نشعر بتلك المشاعر الإيجابية.
تحسين التركيز ومهارات الذاكرة
ويساعد الجلوس في الطبيعة أو حتى مشاهدة حلقات عن الحدائق والحيوانات والكائنات الحية الأخرى في تنظيم القدرات العاطفية للإنسان وتحسين وظائف الذاكرة. ووجدت دراسة نشرتها مجلة SAGE العلمية بعنوان "الفوائد المعرفية والعقلية عند التعرض للطبيعة" عام 2008، أن الأشخاص الذين مارسوا المشي في الحدائق والأماكن الطبيعية البعيدة عن البنايات والطرق السريعة والتركيبات الحضرية الأخرى، حققوا نتائج أفضل في اختبار الذاكرة من الأشخاص الذين ساروا في شوارع المدن.
إذ تمتلئ البيئات الحضرية بالمحفزات التي تجذب الانتباه وتشتته بشكل كبير (على سبيل المثال الانتباه لتجنب الاصطدام بسيارة أو التعرض للسرقة)، ما يجعلها أقل قدرة على إراحة الأعصاب وتمكين الشخص من التأمل والاسترخاء.
وحقيقة أن البقاء على تواصل دائم مع الطبيعة يحسّن التركيز والقدرة على الانتباه تأكدت خلال نظرية "استعادة الانتباه" (1989 – 1995)، التي توصلت بعد تجارب عديدة على مدى سنوات أن المشاهد الطبيعية مثل غروب الشمس أو الجلوس على الشاطئ أو مراقبة السحب أو المشي بين الأشجار تجذب انتباهنا بشكل إيجابي دون بذل الكثير من الجهد، ما يجعلنا نستعيد السيطرة على قدراتنا في التركيز بشكل أفضل.
تعزيز قدرات الإبداع وحل المشكلات
كما وجد بحث لجامعة كانساس عام 2012 بعنوان "أثر الوقت في البرية على تعزيز الإبداع وقدرات حل المشكلات" أن قضاء وقت أكثر في الهواء الطلق ووقت أقل على أجهزتنا الإلكترونية يمكن أن يزيد من مهاراتنا في حل المشكلات وتحسين قدراتنا الإبداعية.
حيث اتضح أن الطبيعة بإمكانها تحفيز العقل البشري دون الإلهاءات التي غالباً ما تهدد الحياة اليومية لإنسان القرن الحادي والعشرين. وخلص البحث إلى أن "الطبيعة هي المكان الذي يمكن لعقلنا أن يستريح فيه ولكي نكون مبدعين ومبتكرين وقادرين بشكل أفضل على حل المشكلات، وهي تمكننا من الانخراط بطريقة أكثر إنتاجية في التواصل والتفاعل مع الآخرين".
علاج فعال للاكتئاب
التعرض للطبيعة بصورة دورية يعالج كذلك الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب. إذ كشفت دراسة في علم النفس نشرتها مجلة المركز الوطني الأمريكي لمعلومات التكنولوجيا الحيوية عام 2012، أن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الاكتئاب البسيطة وحتى الدرجات البالغة والمتطورة مثل الاكتئاب الإكلينيكي، أظهروا تحسناً ملحوظاً في مزاجهم عند تعرضهم للطبيعة. بل وشعروا أيضاً بمزيد من الحافز والنشاط للتعافي والعودة إلى الحياة الطبيعية.
علاوة على ذلك، أكدت نظرية التطور النفسي (PET) بجامعة ووترلوو الكندية في 2013، أن البقاء في بيئة من صنع الإنسان يعرضنا لاضطرابات مثل التوتر والاكتئاب والسمنة وأمراض القلب، وأن قضاء ساعات طويلة في المنزل أو المكاتب المغلقة يسبب الأفكار السلبية والإرهاق، ما يشكل تحدياً لرفاهية وسلامة حياتنا اليومية. وخلصت النظرية إلى أنه في المقابل فإن التفاعل مع أي صورة من صور الطبيعية بشكل دوري يمكن أن تجعلنا نشعر بتحسن على الفور ويقاوم الأفكار السلبية والاكتئاب.
إذا لم تستطع الخروج.. أحضِر الطبيعة إليك!
ويمكن للاستماع إلى أصوات الطبيعة أن يكون له تأثير مماثل للخروج إلى الحديقة. وفي بحث بجامعة ساسكس عام 2017، استخدم الباحثون ماسح التصوير بالرنين المغناطيسي لقياس نشاط الدماغ لدى الأشخاص أثناء استماعهم للأصوات المسجلة من البيئات الطبيعية أو الاصطناعية.
واتضح أن الاستماع إلى الأصوات الطبيعية جعل اتصال دماغ المستمعين يعكس تركيزاً موجهاً نحو الخارج للانتباه، وهي عملية تحدث أثناء فترات الراحة مثل أحلام اليقظة.
بينما خلق الاستماع إلى الأصوات الاصطناعية تركيزاً داخلياً في المخ يحدث أثناء حالات القلق واضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب. لذا فمن الممكن بالنظر إلى صور الأماكن الطبيعية أو النباتات المنزلية من حولك، أو الاستماع إلى صوت الطيور وخرير الماء كل صباح أن يساعدك. هل هناك أسهل من ذلك؟!