أدرك مزارعو عصور ما قبل التاريخ أن تخصيب محاصيلهم بفضلات الحيوانات هو الحل المثالي لضمان محصول وافر، وإعادة استخدام فضلات الحيوانات كانت السبب في تحقيق الأمان الزراعي وبالتالي الاستقرار وازدهار تلك الحضارات.
هذا بالضبط ما حصل مع صحراء أتاكاما في جنوب أمريكا وسكانها من شعوب الإنكا.
وعلى الرغم من قرب الصحراء النسبي من المحيط الهادئ، فإن صحراء أتاكاما في أمريكا الجنوبية قاحلة جداً حالياً لدرجة أن العلماء يستخدمونها لمحاكاة الظروف على المريخ من أجل تجاربهم خارج حدود الأرض.
ومع ذلك قبل ألف عام، كان المزارعون يزرعون المحاصيل هناك وينشئون مجتمعات مزدهرة.
يقول أستاذ الزراعة والحضارات القديمة في جامعة ولاية أيوا جوناثان ساندور: "ابتكر الناس أروع أنظمة الري والمسطحات لإدارة المياه الثمينة التي كانت لديهم".
وحسب ما قاله لمجلة Smithsonian، فقد طوروا المحاصيل التي تم تكييفها مع هذه الأماكن، "وهي شهادة حقيقية بشأن قدرة الإنسان على تطوير معرفته على مدى فترات طويلة من الزمن"، حسب تعبيره.
جعلت البراعة ذلك ممكناً، جنباً إلى جنب مع مكون سري مفاجئ: فضلات الطيور البحرية.
فضلات الطيور ثروة ثمينة
عرف المزارعون أنه يتعين عليهم تعظيم كل قطرة ماء ثمينة لديهم، لكنهم كانوا يعرفون أيضاً أن تربة المنطقة القاحلة تحتاج إلى مغذيات.
تشير دراسة جديدة نشرتها دورية Nature Plants إلى أن العمال قاموا بتسليم فضلات الطيور إلى اليابسة، ثم نقلها المزارعون الصحراويون، حيث كان وزنها يستحق الذهب.
و"نظراً لأن المناطق القاحلة في أتاكاما تبعد أكثر من 90 كيلومتراً عن الساحل، فإن استخدام فضلات الطائر بدلاً من روث الحيوانات الأخرى والأوراق المتحللة يدل أيضاً على توسع شبكات السفر والتجارة الإقليمية"، حسب ما قالت عالمة الآثار فرانسيسكا سانتانا ساجريدو، وهي مؤلفة مشاركة في الدراسة.
حقق الفريق في تاريخ تطور الذرة بشكل أساسي، لكن المحاصيل التي كانت موجودة في عصور ما قبل التاريخ تضمنت أيضاً الكينوا والفلفل الحار والقرع والكوسا والفاصوليا والبطاطس وغيرها من الأطعمة الشهية.
كانت بقايا الطعام منتشرة ومتنوعة لدرجة أنهم طرحوا سؤالاً: "كيف تم إنتاج كل هذه المحاصيل في الصحراء؟".
لكشف أسرار هذا الازدهار الزراعي، أخذ الفريق عينات من 246 من بقايا نباتية في جنوب وسط جبال الأنديز في شمال تشيلي.
وجدوا أن نسبة النيتروجين في المحاصيل، وهو مؤشر على زيادة العناصر الغذائية في التربة، ارتفعت بشكل كبير في المنطقة من العام ألف بعد الميلاد، لتصل إلى مستويات يعتقدون أنه لا يمكن تفسيرها بالتغيرات الطبيعية أو الأسمدة التقليدية في ذلك العصر.
ويعرف العلماء أنه يمكن توفير النيتروجين بجرعات كبيرة عبر طريقة واحدة فقط: فضلات الطيور البحرية على طول ساحل المحيط الهادئ.
وأكد أحد العلماء المشاركون أنه لا يمكن ارتفاع مستويات النيتروجين إلا بسبب هذه الفضلات دون غيرها من الحيوانات، حتى حيوان اللاما الذي يعيش في تلك المنطقة لا يمكن أن ينتج هذه النسبة من النيتروجين.
والعثور على أدلة النظام الغذائي للإنسان القديم لا توجد في في الطعام فقط، بل يمكن الكشف عنها في البقايا البشرية من خلال تحليل النظائر المستقرة.
لا تتحلل أبداً النظائر المستقرة العناصر مثل الكربون والنيتروجين، لذا عندما تأكل الحيوانات النباتات، تصبح النسب الواضحة الموجودة في الطعام جزءاً من أجسام الحيوانات ويمكن رؤيتها بعد قرون من خلال تحليل عظامها.
ووجدت دراسة نُشرت نتائجها العام 2013 عن بقايا أسنان من 28 هيكلاً عظمياً وجود آثار نيتروجين كثيرة ومستقرة في مواقع الوادي الداخلي، ما يشير إلى أن سماد روث الطيور كان يستخدم في تلك الأماكن حوالي العام 1000 م، كما كشفت الدراسة آثار استهلاك الذرة ومشتقاتها بكميات كبيرة.
عندما وصل الإسبان إلى المنطقة بعد حوالي 500 عام من بدء عملية تخصيب فضلات الطيور بشكل جدي، وثقوا جهود الإنكا المعقدة لجمع الفضلات الثمينة.
وبعد أن استقر الإنكا في المنطقة حوالي عام 1450 بعد الميلاد، استخدم العمال قوارب عائمة مصنوعة خصوصاً من جلود أسود البحر، لزيارة الجزر الصخرية الصغيرة على طول سواحل جنوب بيرو وشمال تشيلي وجمع ما أصبح يُعرف لاحقاً باسم "الذهب الأبيض".
لاحظ الإسبان أيضاً أن شعوب الإنكا تنقل روث الطيور من الساحل إلى مستوطنات الواحات الداخلية عبر قوافل حيوان اللاما.
كانت صناعة روث الطيور لدى شعوب الإنكا منظمة للغاية، وتعرّض كل من انتهك بروتوكولات الفضلات باستخدامها أو تخزين أكثر من حصته لعقوبات جمة وصلت إلى الإعدام أحياناً.