انقدَحَ في خاطري من الأفكار الكثير حينَما قرأتُ حكمةً تقولُ: (لا يُمكِنُكَ أن تمنَحَ حياتَك مَزيداً من الأيام، ولكن يمكِنُكَ أن تمنَحَ أيامَكَ مَزيداً من الحياة).
أعجبني الكلام كثيراً، وشعرت بمدى صدق هذه الكلمات وإيجازها.
إنَّ اليومَ الذي تحياهُ ويستحِقُّ أن يُسَجَّلَ من أيام حياتك هو يومُ الإضافةِ والإنجاز، يومُ البَصْمَةِ والأثَرِ الإيجابيّ الذي تَكسِبُهُ في ذاتِكَ أو تُكسِبُهُ لغيرك، هو اليوم الذي علمتَ فيه طفلاً، أو زرعتَ شجرة، أو درستَ أدباً، أو ازددت علماً، أو نشرت فكرةً كتب الله لها الخلود.
هو اليومُ الذي تُحلّقُ فيه روحُك وتزدادُ فيه قرباً مِن رَبِّك. يومٌ رُزِقت فيه خشوعاً أو تعلمت آية، أو جَبرت خاطراً، أو أعنت محتاجاً، أو كانت لك فيه خبيئة عند الله.
قرأتُ للكاتب جمال الباشا كلمات قال فيها:
"أيامُ حياتكَ لا تملِكُها فالأعمارُ والآجالُ عِلمُها عندَ ربّي، ولا تَقدِرُ أن تزيدَ فيها شيئاً، أما حياةُ أيامِكَ فهنا الشأنُ كلُّه".
لا تشغل بالك "كم ستَعيشُ" ولكنَّ المُهمَّ "كيف تعيش"؟!
نعم يعيش بعضهم حياة طويلة ثقيلة ملؤها السأم والملل والتذمر والشكوى.
ويعيش آخرون يصارعون الدقائق ويهزمون الساعات، فلكل وقت عمل أو عبادة وذكر وشغل.
ركِّزْ على الـ"كيف".
كيفَ تختارُ لنفسِكَ حياةً كريمَة؟
كيف ترسمُ لنفسك خاتمةً سعيدةً تستقبِلُ بها الحياةَ الأبديَّةَ الباقية.
وتجلَّى أمامَ عيني قولُ الحقّ جَلَّ جلالُه:
"أوَمَنْ كان ميتاً فأحييناهُ وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمَنْ مثَلُه في الظُلُمات ليس بخارجٍ منها".
عرفت كثيراً ممن قضوا أيامهم في السجون ظلماً لأنهم أصحاب قضية عادلة فخرجوا بإنجازات وشهادات لم ينلها مَن تمتعوا برغد العيش وطيب الحياة، ولما خرجوا كان تقديرهم لكل لحظة في الحياة أكبر، وهِمّتهم لسبق الزمن بتحقيق المراد أشد.
ولقد شاهدت بأم عيني بعضاً من علمائنا الذين قضوا في سجون الظلم سنين عدداً فلما خرجوا منّ الله عليهم بالذرية الطيبة والأحفاد والزوجات الصالحات، وفتح الله لهم من أبواب الرزق والخير ما أدهش العباد، فلما سألوه عن ذلك قال: "أحيانا الله وأماتهم، وأغنانا وأفقرهم، وبارك لنا وأتعسهم".
وعرفت رجالاً كانت أيامهم في الدنيا قليلة، ولكن بصْمتَهم في سجل الحياة بارزة وفارِقة، وخَلدت أعمالُهم ذكراهم على مر السنين.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر:
فهذا سيدنا سعد بن معاذ يقضي في الدعوة للإسلام 6 سنوات فقط، بذل فيها من الجهد والطاقة ليهتز عرش الرحمن له عند موته.
وهذا المهندس المجاهد يحيى عياش (١٩٦٦ – ١٩٩٦) استُشهد وعمره ٣٠ عاماً، وقد حيّر الصهاينة بأفعاله وأوجعهم بضرباته وأذهلهم بتفوقه عليهم.
وذاك الشهيد البطل عماد عقل (١٩٧١ – ١٩٩٣) استُشهد وعمره ٢٢ عاماً، وكان من الشباب المجاهدين المخلصين رُغم ما لاقى من الظلم والإبعاد والتنكيل.
ومن أجمل ما قرأت عن الإمام الكسائي (رحمه الله) أنه كان راعياً للغنم حتى بلغ ٤٠ عاماً، وفي يوم من الأيام وهو يسير رأى أمّاً تحث ابنها على الذهاب إلى الحلقة لحفظ القرآن والولد لا يريد، فقالت لابنها: يا بني اذهب إلى الحلقة لتتعلم حتى إذا كبرت لا تكون مثل هذا الراعي!
فقال الكسائي: أنا يُضرب بي المثل في الجهل.
فذهب فباع غنماته وانطلق إلى التعلم وتحصيله فأصبح:
إماماً في اللغة
إماما في القراءات
هُموم الحياة ثَقيلة، ومشاغلها كثيرة، فاحرص أن يكون أبلغ هَمّك فيها أن تحيي مَوات يومك، بكثرة ذكرك وعملك، واترك الكسل والملل، والحزن والنكد، والفراغ والعجز.. فهم ألد أعدائك.
دامت حياتكم سعيدة، وأيامكم بالصالحات حيّة منيرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.