من اللحظة التي يتكَوَّن فيها الطِّفلُ نطفةً في بطن أمّه إلى أَلَمِ المَخاضِ، والأمُّ تُعاني من تَقَلُّباتِ طفلها في أحشائها، وتغيُّر هرموناتها، وحرصها على البقاء بصحة جيّدة من أجله، فأتساءَل أحياناً: كيفَ تُقْدِمُ الأُمَّهات على خوض التجربة نفسها مرّاتٍ كثيرة، على الرّغم من أنّ التجربةَ ولمرّةٍ واحدة كافيةٌ لتجعلها تعزم على ألّا تفعلها مَرّةً أخرى، لكنّ العكسَ تماماً هو ما يَحدُثُ.
يطرُقُ المَخاضُ البَابَ، فتتحوَّلُ الأنثى إلى أنثى دجاجة، تُحاول بكلّ قوتها المُساعدة على انتزاع طفلٍ من أحشائها، ولو على حساب انتهائها هي، تقولُ فقط: المُهمّ هو ابني. يُولَدُ الصَّغيرُ مُستقبِلاً العالَمَ بِصرخةٍ يرتاحُ لها قلبُ الأمّ المسكينة، وآنذاك فقط، تستكين، ورغم كُلّ التعب الذي تعانيه تكفيها نَظرةٌ في عينَي طفلها حتّى تَنسى كلّ ألم الدُّنيا..
تنتهي مرحلةُ الحملِ والولادة، فتأتي مرحلةُ السنتين الأوليَين بكلّ تقلُّباتها المُنهكة، فتُحرَمُ الأُمُّ من نومها دونَ أن تشتكي لحظةً، لتنتقل فجأةً من أنّها كانت 'تعيش لنفسها' لتصبحَ "تعيش لأطفالها". والحياةُ لم تكُن يوماً سهلةً على أحد، مِن أمّهاتنا من تشتغل صباحاً ومساءً على خاطر أبنائها واحتياجاتهم؛ ومنهنّ من تتحمَّلُ ظُلمَ الآخرين لها؛ من أجل الحفاظ على أطفالها من التشرُّد؛ ومنهنّ من لا يشبعُ أطفالها وهي تقضي الليالي بجوعٍ وسلواها أنّ فلذة الكبدِ أَكَلت.. والقصص المحيطة بنا كافيةٌ لتُعلن عن نفسها وتَضَع المُكَبّر على أمّهاتٍ بظروف مختلفة..
تفرحُ الأمُّ عند أوّل خطوةٍ لطفلها، وعند أوّل سِنٍّ تطِلُّ، وعند أوّل بُراز بعدَ ساعاتِ إمساكٍ هَمَّت بصغيرها.. يوماً بعد يوم، يزداد حرصها عليه وحُبُّها أكثر فأكثر، ولا يرفّ لها جفنٌ إن لم يأكُل قَبْلَها، وإن لم يشبع بَعدها، أمّا إن أصابه خَدشٌ واحِدٌ، أصابَت سهامُ بُكائه قلبَها النّازفَ لجرح طفلها..
يكبرُ الطّفل أكثر، فتلعبُ معه الغُمّيضة، هُو يفرّ من اهتمامها الكبير، وهي وراءَهُ كما كانت تفعل في خطواته الأولى، دونَ أن تُدرك أنّ الصَّغيرَ كَبُرَ، فتراهُ على الدّوامِ طفلها الذي لا يكبُرُ ولا يجيد أن يفعل شيئاً دونَها.. ومع ذلك، فإنّ أوّل كلمةٍ ينادي بها عند دخوله هي: "أمّي"، كما لو أنّها طقسٌ مُشابه في كلّ البيوتِ، وكما لو أنّها سيمفونية مُناشَدَة للجدارِ الثّابتِ في البيتِ، ووحدهم الذين فقدوا صدى الصّوت الذي يردّد: "نعم، أنا هُنا" يعرفون قيمته.
تقتضي دورةُ الحياة أن يأتِيَ دَورُ الصّغيرِ في الزّواج، فتبدأُ مُشاحَناتُ الاهتمام، ومنها ما يَقذِفُ بالعجوز المُسنّة (الأمّ الحنون) في بيتٍ للمُسنّينَ، فهل جزاءُ الإحسانِ إلّا الإحسانُ؟!
يُتمُّ الوَلدُ حياته بطريقةٍ عادية، ولا يَعنيه أن يسأل للحظة عن حَال أمّه، فيُنجبُ أطفاله، ويبدأُ في السّهر عليهم، والتَّعب منهم، وزيادة عدد ساعات عمله ليوفّر لكلّ منهم كلّ ما يُريدهُ، مع حرصه الشديد على إيصال زوجته كلّ يومِ عطلة إلى بيتِ أُمِّهَا.. وطفله في المقعد الأخير من السَّيارة، يَرسُمُ لأبيهِ حقائبَ بجانبه على بابٍ كُتبَ عليه: "دار العَجَزة".
في اللحظة التي أردتُ تسلُّقَ بعض السَّلالِم المُثبَّتة بقدمين قد تنزلق بي في أيّ لحظة، لم يأتِ أحدٌ ليُثبّتِها.. فتذكَّرتُ أُمّي، أمّي التي لا تثق بأقدام السلالم مهما كانت ثابتة، ولا تثق إلّا بحرصها على إثباتها، وخوفها عليَّ من أن أَقَعَ.. وقلبُها يخافُ عليَّ أكثر ممّا أخافُ على نفسي، فهل في الكَون قلبٌ كقلبِ الأمِّ؟
أستغربُ كثيراً من الأشخاص الذين ينسون الفَضلَ بسرعة، ويتخلّصون من أمّهاتهم ما إن يصبحوا بالنسبة لهم مصدر إزعاجٍ يُوقِفُ رَغَدَ الحياةِ التي يعيشونها، دون أن ينتهبوا لحظة إلى أنّ الأمَّ التي أصبحت عالةً هي أكثر الأشخاص حرصاً على سلامة أولادها. وما إن تشعر -هي نفسها- بأنّها مَصدرُ ثِقلٍ حتّى يَحُزَّ في نَفسها الأمرُ، وتُفضّل الرحيل؛ من أجل سعادة الباقين. أخبرني أحدُ أقاربي قبل أيّام، عن قصّة أربعةِ فتيةٍ أقنعوا والدهم بأن يبيعَ كلّ أملاكه ويقسمها لهم في حياته، تحت لواءِ مُبرّر أنّهم سيتشاجرون فيما بعدُ، وبالفعل.. باعَ الأبُ كلّ ما يملكه، بدءاً من مَنزله الذي كان يسكن فيه، وعليه أصبح يجلس عند كلّ واحد منهم مُدّةً زمنية محددة، بتَناوُبٍ، فسمع أحدَ أبنائه يخبر بقية إخوته بتذَمُّرٍ، بأنّ أبَاهُ قد أرهَقَهُ وينتظر موته بفارغ الصَّبر، فصُدم الأبُ، وظلّت العبارة تتكرّر في أذنه كَسَهْمٍ يخترقُ قلبه مع كلّ إعادة، ولسوء الحظّ ربّما أو حُسنه، كانَ الأبُ متعلّماً يكتبُ كلّ ما سمعه من أبنائه، فجمعهم ذات يومٍ قائلاً: "يا أبنائي، في الحقيقة، لم أقسّم كلَّ أملاكي، ما زال لديَّ صندوقٌ في الخزانة، وسآخذه معي أينما ذهبتُ، وعندما أموتُ، آنذاك فقط، اقتسموا ما فيه"، فابتسم الأبناءُ كذئابٍ جائعة وجدت فريسةً ستنقضُّ عمّا قريبٍ عليها، فعادوا للاعتناء به من جديد بحرصِ من يرى فيكَ حاجةً، ويستخدمك كوسيلةٍ ليبلغَ غايته. فأتى اليومُ المنشود، وتُوفي الأبُ، وبعدَ دفنه مباشرةً توجَّهوا نحوَ الصندوق، وعندما فتحوه، وجدوا كُومةَ رسائل بالتاريخ والقائل والشعور وكلّ الخزي والعار اللذين ألحقوهما بأبيهم. ففيم ينفع النّدَمُ بعدَ فواتِ الأوان؟
لو كنَّا نهتم بأهلنا ثُلُثَ ما نهتمّ بآبائنا، لَنِلْنا من الرّضَى ما نُواجه به صعوبات الحياة، ولو تحمّلنا أكثرهم خَرَفاً، وأكثرهم قسوةً في كِبَره، لَما رَدَدْنا دَين ما تحمّلوهُ منّا، فماذا لو كانت أمُّكَ -أيُّها السَّيد الذي تخلّى عن أمِّه- واحدةً من أطفالك؟
هل تترُك ابنك المريضَ؟
هل تنزعجُ إذا جلسَ في بيتكَ؟
هل تتذمَّرُ من كلامه وصراخه والملابس التي تتَّسخ إذا أَكَلَ؟
هل تبحثُ له عن أوَّل دار أيتامٍ ما إن تشعر بأنه أصبح مُزعجاً ولا حاجة لك به؟
لا خَيرَ في رَجُلٍ نسِي الفضل، ومن ينسى فضل أمِّه عليه، لا خيرَ فيه.. فأرجوكَ، لا تخذُل أمَّكَ! فلا عزاءَ في النَّدم والبُكاء على أعتاب المقابر..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.