كان مساء يوم بارد ونَديّ في مدينة نيويورك الأمريكية، حين امتلأت أرصفة الشوارع بنُدَف ثلج تساقط ظهيرة اليوم السابق، وترنحت الأشجار تحت وطأة الكتل الثلجية المُتدلِّية من فروعها، وقاد السائقون سياراتهم بحذر عبر تقاطعات الشوارع الزَلِقَة.
تجمع نحو 250 متظاهراً، ملتفين بأغطية الرأس والأوشحة، وبدا كثيرٌ منهم ضئيل الحجم داخل معاطفهم الضخمة، أسفل سقالة خارج مكتب القنصل العام الهندي عند تقاطع شارع 64 في مدينة مانهاتن، بولاية نيويورك الأمريكية، احتجاجاً على التطورات الأخيرة في الهند، كما يرصد تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
قانون المواطنة المثير للجدل
إذ وقَّع رئيس الهند رام ناث كوفيند، في الأسبوع الماضي، على تعديلات قانون المواطنة التي تستثني المهاجرين واللاجئين المسلمين الذين يعيشون في الهند من الحصول على الجنسية.
ويُنظَر لهذه التعديلات، التي تُمثِل جزءاً من سلسلة تدخلات حديثة للحزب الحاكم القومي الهندوسي "بهاراتيا جاناتا"، بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، على أنها المحاولة الأخيرة لتقويض حقوق المواطنين المسلمين ووضعهم في الدولة، وتحويل الهند إلى دولة هندوسية.
ورداً على ذلك، خرج الطلاب الهنود في أكثر من 50 جامعة في 25 مدينة إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم لهذه الخطوة. لكن قوبلت احتجاجاتهم بحملة قمع شرسة، بما في ذلك اقتحام الجامعات، واستخدام الغاز المسيل للدموع وحتى إطلاق الذخيرة الحية.
وأول أمس الأربعاء 18 ديسمبر/كانون الأول، صرَّح المتظاهرون، معظمهم من الطلاب الهنود من مدينة نيويورك وحولها، بأنهم جاؤوا لإبداء معارضتهم لحكومة مودي، ليس فقط بخصوص تعديلات قانون المواطنة بل أيضاً بشأن خطط الحكومة لتدشين سجل قومي للمواطنين مثير للجدل، لم يُنفَذ حتى الآن إلا في ولاية آسام الحدودية.
وأثيرت كذلك قضية أخرى تتعلق بسياسات الحكومة في كشمير، حيث اقترح القنصل العام الهندي في نيويورك الشهر الماضي أن تتبع الهند سياسة إسرائيل في بناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة.
هجمات على غرار النازية
وفي تصريح لموقع Middle East Eye البريطاني، قالت سانتياني موخيرجي، أحد منظمي الاحتجاج: "نظّمنا هذا الاحتجاج ليكون وسيلة لتوجيه الغضب والإحباط الذي شعرنا به عندما صعقتنا موجات الأخبار المتتالية هذه".
وشبَّهت موخيرجي هجمات قوات الأمن الهندية على الطلاب المحتجين في جامعة Jamia Millia Islamia في نيودلهي وجامعة Aligarh Muslim University، بالهجمات التي شنَّها النازيون عام 1938 على المحلات والمتاجر اليهودية في ألمانيا، التي عُرِفَت باسم "ليلة الكريستال".
وأضافت موخيرجي: "جميع منظمي هذا الاحتجاج نشأوا في الهند والتحقوا بجامعات هندية. شعرنا بالعجز لأننا لم نعد إلى هناك لنقاتل مع زملائنا الطلاب ورفاقنا".
وتابعت: "هذه الحكومة تختبر منذ فترة طويلة مدى مرونة حدود أخلاقيات العامة منذ عام 2014، لكن يبدو أنَّ تمرير تعديلات قانون المواطنة الحديثة والهجمات على جامعتي Jamiaa وAligarh Muslim فتحت أعين الناس أخيراً على حقيقة الراشترا الهندوسية" – المقابل الهندوسي لكلمة الأمة.
ونُظِمَت احتجاجات مماثلة، أول أمس الأربعاء، في العاصمة البريطانية لندن، شارك فيها نحو 1000 طالب من رعايا دول جنوب آسيا لإظهار تضامنهم مع الطلاب في الهند.
وفي مدينة نيويورك، قال متظاهرون مثل فايز عبدول، (26 عاماً) من ولاية كيرالا الهندية، إنه خرج ليقولَ إنَّ مواطني الهند لن يقبلوا بتصرفات حكومة مودي.
وأضاف عبدول: "ما فعله مودي، أذاني نفسياً. فهو يدفع بالمسلمين لمرتبة ثانية".
آثار تتعدى الحدود
وقال متظاهر آخر يُدعَى أشبال خان، 23 عاماً من بنغلاديش، إنه على الرغم من أنه ليس مواطناً هندياً، لكن يستحيل ألا يشعر بالانزعاج من صور المكتبات والجامعات التي اقتحمها ضباط الشرطة.
وأضاف: "إلى جانب ذلك، ما يحدث في الهند سيؤثر في بنغلاديش وسائر المنطقة. لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي".
ورفع المتظاهرون صور رامجي أمبيدكار، وهو مفكر مرموق نظم حملة منذ العشرينيات إلى الخمسينيات ضد نظام الطبقات الاجتماعية التمييزي في الهند، وحملوا كذلك لافتات تقول: "هل ستكون سعيداً حقاً في راشترا هندوسية؟" و"الهند ضد قانون المواطنة المُعدَّل والسجل القومي للمواطنين".
وغنى المتظاهرون وتعالت أصواتهم بالهتافات والدعوات بالتحرر من الطغيان.
وبين نشاز الأصوات، والملصقات والرايات المصنوعة يدوياً، ظهر شاب يلف رأسه بـ"الكوفية"، وبَسَط برفق العلم الفلسطيني وأمسكه بقوة أمام صدره، قبل الانضمام إلى جوقة الهتافات التي تندد بقانون المواطنة الجديد وانحدار الهند إلى الاستبدادية.
وكان هذا العلم واحداً من أعلام قليلة رُفِعَت خلال الاحتجاجات.
وحين سُئِل أحمد خالدي -ليس اسمه الحقيقي- عن سبب رفعه علم فلسطين، أجاب أنَّ لديه سبباً آخر للمشاركة في المظاهرة.
وقال خالدي، البالغ من العمر 15 عاماً وينحدر من أصول روسية فلسطينية، إنَّ رئيسي وزراء الهند وإسرائيل لا يشبهان بعضهما البعض فحسب، بل حقيقة أنهما يعملان معاً أشعرته بوجوب المشاركة.
وأوضح: "كلاهما يستخدمان الدين والإثنية أداةً لصرف الانتباه عمّا يحدث بالفعل. فكلاهما جزء من هذه الموجة الاستبدادية التي تجتاح العالم"، رافعاً العلم مرة أخرى بعد أن انزلق قليلاً من بين ذراعيه.
وتابع: "أحضرت العلم الفلسطيني لإظهار التضامن مع المسلمين في الهند، وشعب كشمير؛ لأنهم مثلنا: محتلون ومضطهدون".
ومع غروب شمس ذلك اليوم، طلب خالدي من موقع Middle East Eye عدم الكشف عن اسمه، أو نشر صورته رافعاً العلم.
وقال بصوت خافت: "لا أريد أن يُستخدَم هذا ضدي لاحقاً".
واستمرت الاحتجاجات ضد القانون الجديد في الهند على الرغم من محاولات الحكومة حظر التجمعات، وقطع الإنترنت، واستخدام أساليب تخويف لإبقاء الناس في المنزل.
ويقول منظمو الاحتجاجات في مدينة نيويورك إنَّ العمل على تحدي سياسات مودي بدأ للتو. وهم أيضاً متفقون أنَّ كفاحهم ليس ضد مودي فحسب.
إذ قالت موخيرجي، الطالبة الناشطة: "مودي، ودونالد ترامب، وشي جين بينغ، وجايير بولسونارو، ونتنياهو، جميعهم يتبعون نفس قواعد اللعب. ويستعيرون من بعضهم البعض عندما يتعلق الأمر بسياسات فرض السيطرة الاقتصادية والاجتماعية، والأساليب الحرفية التي تسمح بتنفيذ سياساتهم الاستعمارية".
وأضافت: "إذا كان الجناح اليميني قادراً على تحقيق النزعة الدولية بهذا المعنى، فعندئذ نحن المواطنين في الأنظمة الفاشية يجب أن نبني تحالفات دولية أعمق وأقوى".
واختتمت تصريحاتها قائلة: "استغرق الأمر وقتاً طويلاً جداً وأرواحاً كثيرة، لكن يبدو أنَّ معظم الناس لم يعودوا راغبين في التواطؤ مع هذا النظام بالتزام الصمت على أفعاله".