هل تتخيل أن يقوم شخص ما بتحنيط نفسه وهو على قيد الحياة؟ إن كان الأمر مُستبعداً من وجهة نظرك فعليك أن تعرف الطقس الذي يقوم خلاله الرهبان البوذيون بتحنيط أنفسهم وهم على قيد الحياة، وأن هناك من يقوم بتحنيط نفسه رغبةً في الارتقاء والمرور إلى الخلود والحياة الأبدية.
التحنيط هو أمر معروف في العديد من الثقافات، ولكن الرهبان البوذيين سلكوا طريقة فريدة في التحنيط، حيث يحدث التحنيط بواسطة الشخص نفسه وهو ما زال على قيد الحياة، فقد قام نحو 18 راهباً على الأقل بتحنيط أنفسهم، فيما يُعرف بطقس الـ "سوكوشينبوتسو" من أجل تحقيق قفزة إلى الخلود وإنشاء المومياء الخاصة بهم، من خلال السطور التالية، يُمكننا التعرف معاً على هذا الطقس، وكيف ولماذا يقوم الرهبان البوذيون بتحنيط أنفسهم.
الطقس الذي يقوم خلاله الرهبان البوذيون بتحنيط أنفسهم.. قصة الرهبان الـ18
تم وضع الراهب تيتسومونكاي، الذي تربى على مذبح في أحد أركان معبد تشورينجي باليابان، في مواجهة أشجار النخيل العالية، للتأمل الدائم، هذه هي الطريقة التي اختار أن يموت بها قبل نحو قرنين من الزمان.
ما تبقى من الراهب تيتسومونكاي هو هيكل عظمي مغطى بالثياب، ويُعدّ هذا الراهب واحداً من ثمانية رهبان محنطين ذاتياً، تطبيقاً لطقس الـ "سوكوشينبوتسو"، وموجودون في محافظة ياماغاتا الشمالية الشرقية باليابان، وهؤلاء الثمانية من أصل 18 شخصاً يُعتقد أنهم موجودون في اليابان ككل.
كان الرهبان يتحملون الصيام الشديد للوصول إلى بوذا المغمور بداخلهم، ويقومون بهذا الطقس القاسي على أمل تحقيق التنوير والقوى الخارقة للطبيعة.
البداية كانت لدى الراهب كوكاي
منذ أكثر من 1000 عام، بدأت مُمارسة "سوكوشينبوتسو" من قِبل كاهن ياباني يدعى كوكاي، الذي كان يهدف إلى إظهار أقصى درجة من الانضباط الديني والتفاني، من خلال إقدام الشخص على تحنيط نفسه ذاتياً، وقد بلغت ذروة هذه المُمارسة عندما وصل الأمر إلى الموت والحفاظ على الجسم كاملاً، وإذا نجح الراهب في تحقيق هذا، كان يتم وضعه بعد وفاته في معبد للآخرين من أجل رؤيته وتكريمه.
كان كوكاي (774-835م) راهباً يابانياً، وموظفاً مدنياً، وباحثاً وشاعراً وفناناً، كذلك فهو مؤسس لطائفة باطنية معروفة باسم Shingon، التي جمعت بين عناصر من البوذية والشنتو القديمة والطاوية وبعض الأديان الأخرى، كانت فلسفة هذه الطائفة تستند إلى تحقيق القوة الروحية من خلال الانضباط ونكران الذات.
قرب نهاية حياته، دخل كوكاي في حالة تأمل عميق امتنع خلالها عن تناول الطعام والماء، ما أدى في النهاية إلى وفاته الاختيارية، وتم دفنه على جبل كويا في محافظة واكاياما، بعد ذلك بفترة قصيرة تم فتح المقبرة ووجدوا أن كوكاي المعروف بعد وفاته باسم كوبو دايشي وكأنه نائم.
كيفية تطبيق طقس السوكوشينبوتسو
منذ ذلك الوقت تطور طقس الـ "سوكوشينبوتسو"، وأصبحت عملية التحنيط الذاتي يمارسها عدد من أتباع طائفة Shingon المخلصين، لم ينظر ممارسو سوكوشنبوتسو إلى هذه الممارسة كعمل انتحاري، بل كشكل من أشكال التنوير الخالص.
كانت عملية تحنيط الراهب لنفسه تتم من خلال عدّة خطوات صارمة ومؤلمة للغاية، فخلال الألف يوم الأولى يتوقف الرهبان عن تناول الطعام باستثناء المكسرات والبذور والفواكه والتوت، وينخرطون في نشاط بدني مكثَّف لتجريد أنفسهم من جميع دهون الجسم.
خلال الألف يوم التالية، يتم تقييد نظامهم الغذائي باللحاء والجذور فقط، قرب نهاية هذه الفترة كانوا يشربون الشاي السام المصنوع من عصارة شجرة Urushi، ما يتسبب في القيء وفقدان سريع لسوائل الجسم، كما أنه يُعدّ بمثابة مادة حافظة تقتل الديدان والبكتيريا، التي من شأنها أن تسبب تحلل الجسم بعد الموت.
في المرحلة الأخيرة، وبعد أكثر من ست سنوات من الإعداد القاسي، كان الراهب يحبس نفسه في مقبرة حجرية، بالكاد أكبر من حجم جسده، حيث يبدأ فيها حالة تأمل، يجلس في وضع زهرة اللوتس، وهو وضع لا يُغيره حتى وفاته، يصل الأكسجين إلى القبر من خلال أنبوب هواء صغير، وكل يوم يرن الراهب جرساً ليُخبر العالم الخارجي بأنه لا يزال حياً، وعندما يتوقف الجرس عن الرنين تتم إزالة الأنبوب ويُغلق القبر لفترة الألف يوم الأخيرة من الطقوس.
قد لا يُكلل الأمر بالنجاح في النهاية!
في نهاية هذه الفترة، يتم فتح القبر لمعرفة ما إذا كان الراهب قد نجح في تحنيط نفسه أم لا، إذا تم العثور على الجثة في حالة محفوظة يُرفع الراهب إلى مقام بوذا، وتتم إزالة جثته من القبر ووضعه في معبد حيث كان يُلاقي التقدير والتقديس، أما إذا تحللت الجثة فيتم إغلاق القبر على الراهب، وتُحترم سيرته بسبب قدرته على التحمل، ولكن لا يتم تقديسه.
استمرت هذه الممارسة القديمة المتمثلة في التحنيط الذاتي حتى القرن التاسع عشر، ثم قامت بعدها الحكومة اليابانية بحظرها، فصدر مرسوم حكومي ياباني يمنع هذه الممارسة بعد تصنيفها كنوع من أنواع عمليات الانتحار، واليوم لا يُعتبر طقس سوكوشنبوتسو مدعوماً ومُمارساً من قِبل أي طائفة بوذية.
ويُعتقد أن المئات من الرهبان حاولوا مُمارسة سوكوشنبوتسو، لكن من المعروف أن 18 منهم فقط قد نجحوا في تحقيق التحنيط، ويمكن زيارة العديد منهم في معابد مختلفة في اليابان.