أبهرت صورة تُظهر مدينة دريسدن، عاصمة ولاية ساكسونيا، عند شروق الشمس، نشرتها صفحة القسم الإخباري "تاغزشاو" من القناة الألمانية الأولى يوم 11نوفمبر/تشرين الثاني، الألمان الذين كتبوا كثيراً من الكلمات في مديح المدينة، التي قالوا إنها تبدو كأنها من قصص ألف ليلة وليلة.
ويبدو المشهد بالفعل كأنه مأخوذ في دولة إسلامية، إذ تظهر قبة مسجد ومنارات وسط مبانٍ بُنيت على طراز العمارة الباروكية، رغم أنه الآن في مدينة تعد معقلاً لحركة بيغيدا "أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب".
لكن هذا المبنى الذي يبدو كمسجد، له حكاية، إذ كان في العهود السابقة، مصنعاً للتبغ، يسمى "ينيدتزه"، وما زال اسمه مكتوباً على القبة.
لماذا بُني على شكل مسجد؟
تعود القصة إلى عام 1886، عندما أسس رائد الأعمال اليهودي هوغو تزيتز شركة "أورينتال توباكو آند سيغاريت فاكتوري ينيدتزه" لصناعة السجائر، في دريسدن.
ويعود اسم ينيدتزه، وهو تركي، إلى بلدة منتمية إلى الخلافة العثمانية حينها، كان يتم استيراد التبغ منها إلى ألمانيا، ليصنع تزيتز السجائر منه، وباتت حالياً جزءاً من اليونان.
وكلف تزيتز المعماريَّ مارتين هاميتسش بناء معمل ذي مواصفات خاصة، إذ كانت السلطات في دريسدن تمنع بناء معمل يمكن التعرف عليه على أنه معمل، في وسط المدينة حينها، وفق فيديو لتلفزيون "إم دي إر" الألماني العام.
لذا أتى تزيتز بفكرة تصميم المعمل على شكل مسجد (كواحد من المساجد التي شاهدها خلال رحلاته للشرق)، وبذلك لن يصبح مطابقاً لشروط السلطات، بل سيستغله كنصب إعلاني مميز لعلامة السجائر الشرقية خاصته، حسب ما ذكره الموقع الرسمي للبناء.
وانتهت أعمال البناء وافتُتح المعمل في عام 1909، على هيئة مسجد بالفعل، وهكذا بات اسمه الشائع "مسجد التبغ".
رغم العداء.. حقق المبنى هدفه
ولم يقابَل التصميم المعماري المختلف عن العمارة الباروكية السائدة هناك بالترحيب، بل باعتراض شديد، حتى إن المهندس المعماري هاميتسش استُبعد من غرفة المهندسين المعماريين؛ رداً على تقديمه مشروع بناء "ينيدتزه".
لكن رغم كل هذا العداء، فقد حقق هدفه الدعائي، حيث بات على كل لسان، وفق سرد تاريخي أورده موقعه الرسمي، أوضح فيه أن موقعه المثالي أسهم في ذلك، لقربه من سكة الحديد الرئيسية برلين-براغ، وهو ما جعل المسافرين المارين في القطار يربطون شارة العلامة التجارية للسجائر "السلام عليكم" الموجودة حينها على المبنى، بصورة المسجد الموجود وسط ساكسونيا.
وكانت أنواع التبغ تحمل أسماء عربية كـ "خليفة بغداد"، و "سلام" و "سلام غولد"، بحسب ما يرويه مدير سابق للمبنى.
وبيع المصنع بعد 15 عاماً إلى مجموعة "ريمتسما" التجارية، التي بقيت تديره حتى عام 1953.
وكانت عمليات تخزين السجائر وصناعتها تمتد على 5 طوابق في المبنى سابقاً. وألحقت الحرب العالمية الثانية بالمبنى أضراراً بالغة، لكن القبة نجت من القصف.
وبقي المعمل يواصل إنتاج السجائر حتى تسعينيات القرن الماضي.
كيف يبدو "مسجد التبغ" اليوم؟
ويظهر فيديو صوَّرته قناة "إم دي إر" داخل المبنى الذي بات مَعلماً بارزاً من معالم المدينة، مدخله الذي ما زال ذا تصميم شرقي، في حين تحول سقف المبنى إلى مطعم، وكان سابقاً مكاناً يرتاح عمال المعمل فيه.
وبعد ترميمه عام 1996، تحوَّل المبنى التاريخي إلى مبنى مكاتب (عددها 30)، وبات مقراً لعديد من المنظمات والشركات، التي تتخذ دريسدن مقراً لها.
وتحت قبة مسجد التبغ، يوجد "مطعم القبة/كوبل ريستورانت" الذي يتميز بوجبات الطعام التقليدية في ساكسونيا إلى جانب الطعام العالمي. كما يتم تنظيم فعاليات دورية مثل قراءة الحكايا من قِبل شركة "1001 ميرشن/ألف حكاية وحكاية"، وفقاً لموقع "ينيدتزه".
ومن المقرر أن تتوقف الشركة عن تنظيم القراءات نهاية شهر مارس/آذار 2020، بسبب عيوب في البناء، وبسبب ارتفاع درجات الحرارة ووصولها إلى 45 درجة هناك؛ من جراء التغير المناخي، وفق ما ذكرته على موقعها الإلكتروني.
وتتضمن الفعاليات التي تنظَّم هناك أيضاً، عروضاً موسيقية حية، وفنون أداء كالرقص والتمثيل، ونقاشات وقراءة حكايا ذات خلفية شرقية غالباً.
المالك الجديد تركي
وبات أنور بويوك أرسلان هو المالك الجديد للبناء منذ عام 2014، وهو رجل أعمال في مجال العقارات من أصول تركية يقيم بألمانيا منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وقال في لقاء تلفزيوني حينها، إنه شاهد إعلان بيع المبنى صدفة عندما كان مقيماً في برلين، وأغرم بالبناء فوراً.
وكان ينوي تحويل القبو الذي كان يوماً ملهى، إلى متحف يعرض فيه بعض ما يُذكّره بتاريخ المبنى وإنتاج التبغ فيه.