لفظت الأرض نيراناً في قمة جبلية جنوب غرب تركيا، وعُرفت بلهيب كيميرا، التي احترقت منذ آلاف السنين.
وتقول الأسطورة المحلية القديمة إن هذه النيران هي أنفاس وحش "الكيميرا"، برأس أسد وجسد ماعز وذيل ثعبان. ولكننا نعلم الآن أن وقود هذا اللهب هو الغاز المنبعث من أعماق الأرض.
لكنه لا يأتي من تحلل النباتات أو الطحالب أو الحيوانات القديمة، مثل الوقود الحفري. بل يأتي نتيجة تفاعل كيميائي داخل الصخور، وفقاً لما نشرته صحيفة The New York Times الأمريكية.
وتُظهر سلسلة من الدراسات نشرها مجموعة من العلماء من مختلف أنحاء العالم تُعرف بـ "مرصد الكربون العميق" أن مصدر الغاز أكثر شيوعاً على كوكبنا مما كان معروفاً في السابق.
الظاهرة عُرفت منذ سنوات وليست نادرة
وقال جوزيبي إتوبي، عضو بالمجموعة التي ساعدت باكتشاف أسباب لهيب كيميرا عام 2014: "اكتشفنا وجود هذه الأنواع غير الاعتيادية من غاز الميثان في الكثير من المواقع. إنها ليست بالظاهرة النادرة".
وعلى مدار العقد الماضي، اكتشف العلماء في المرصد مئات الرواسب الغازية في أكثر من 20 دولة والعديد من المواقع في قاع البحار مشابهة للهيب كيميرا.
وعلموا أن تكوين تلك الانبعاثات الغازية أكثر تعقيداً عمّا كانوا يعرفون سابقاً.
وقالت بنديكت مينيز، عالمة الأحياء الدقيقة الجيولوجية في معهد باريس لفيزياء الأرض: "لدينا الآن معرفة وفهم أفضل للطرق المختلفة التي يمكن أن يتكون بها غاز الميثان. ولا يقتصر ذلك على النظام البيولوجي المعروف".
الميثان اللاحيوي، كما يُعرَف، لا يتكوَّن نتيجة تحلل النباتات أو الحيوانات أو الطحالب في الصخور الرسوبية، كما هو الحال بالنسبة للميثان الحيوي.
بل ينتج عن تفاعلات كيميائية للمياه والصخور على عمق أميال من سطح الأرض.
من أين يأتي غاز الميثان؟
ولعدة أعوام، عمل علماء مرصد الكربون العميق على جمع وتحليل عينات غازية من مئات المواقع المختلفة. واستخدموا أدوات خاصة لاكتشاف من أين أتى غاز الميثان، واكتشفوا الطريقة الأساسية: انتزاع الهيدروجين من المياه، واختلاطه بالكربون غير العضوي من المواد أو الغازات غير العضوية. وعند إضافة مادة أخرى غنية بالمعادن لاستمرار العملية، حصلوا على الميثان اللاحيوي.
يأتي الهيدروجين غالباً عملية السربنة "تحول الصخور النارية إلى صخور سربنتينيت"، حيث تتسلل المياه عادة خلال الصخور.
ولكن مصدر الهيدروجين قد يختلف من موقع لآخر نتيجة استخدام مصادر مختلفة للمعادن أو الكربون وفقاً للبيئة المحيطة؛ قد يأتي الهيدروجين نتيجة الاحتكاك أو التحلل الإشعاعي بدلاً من عملية السربنة.
وقد تتراوح درجات الحرارة من أقل من 120 درجة مئوية، حيث تظل بإمكانها دعم وجود أشكال للحياة، وصولاً إلى أكثر من 480 درجة مئوية، حيث لا يمكن وجود أي مظاهر للحياة عند هذا المستوى.
لذا، توصلت النتائج إلى أن لهيب كيميرا ناتج عن سقوط مياه الأمطار على الحجر الجيري الغني بثاني أكسيد الكربون أو الأحجار "المسربنة" الغنية بكربونات الكالسيوم والهيدروجين.
التخليق الكيميائي قد يكون أقدم من البناء الضوئي!
وعلى النقيض، في المحيطات، في مواقع مثل مجال المنفس الحراري المائي للمدينة المفقودة، نتج معظم غاز الميثان المتكون تحت درجات حرارة عالية عند الكشف عن الصخور التي كانت مدفونة في قاع البحار وسربنتها بمياه البحر.
في كل حالة، كنا نرى عملية تخليق كيميائي، وهي نسخة أعماق الأرض من البناء الضوئي. الفارق أن الطاقة اللازمة لهذا التخليق تأتي من التفاعلات الكيميائية، وليس عن طريق ضوء الشمس. وتتشابه العمليتان في تحويل جزئيات غير عضوية إلى منتجات عضوية، وهو أساس كل النظم البيئية على سطح الكوكب.
في بعض الحالات، تُنتج عمليات التخليق الكيميائي أيضاً الأحماض الأمينية، وحدة بناء الأحياء.
وتمكّن الباحثون، باستخدام أدوات حديثة مصممة لدراسة باطن الأرض، من تحديد مصدر الميثان وإن كان يأتي من مصدر حيوي أو مصدر غير حيوي. وأثناء ذلك، تمكنوا أيضاً من كشف عدة أسرار عن نشأة الحياة على سطح الكوكب وإمكانية وجود حياة على كواكب أخرى، مثل باطن كوكب المريخ أو في قاع محيط قمر زحل الجليدي، إنيلادوس.
ويعتقد العلماء، مثل د. مينيز أن التخليق الكيميائي قد يكون أقدم من البناء الضوئي، وسمح بظهور الكائنات الدقيقة التي تأكل وتُنتج الميثان. وقالت: "نعرف أن الحياة لم تنشأ من العدم". ويشير وجود أوجه تشابه بين طرق إنتاج الكائنات الدقيقة الحية والتفاعلات الكيميائية غير الحيوية للميثان إلى العديد من علامات الاستفهام حول نشأة الكائنات الدقيقة وأصلها. وأضافت: "في بداية تاريخ الأرض، قد تكون نشأة الحياة جاءت عن طريق محاكاة العمليات الجيولوجية التي حدثت بشكل طبيعي".
وفي المستقبل، يأمل الباحثون في معرفة مقدار غاز الميثان الناتج ومكان تخزينه.