"طالبوا ببعض الطعام بعد أن تضوروا جوعاً، ولكن فجأة انهال عليهم الرصاص عقاباً لهم على طلبهم". بهذه الكلمات روى صحفي تجربة العبودية في ليبيا التي عاشها بنفسها.
الصحفي الغيني ألفا كابا يروي في كتابه "عبد الميليشيات"، الذي ألَّفه باللغة الفرنسية، الفترة القاسية التي قضاها في ليبيا عندما اضطر إلى أن يعيش حياة العبودية، قبل أن ينجح في عبور البحر الأبيض المتوسط والوصول إلى فرنسا حيث يعيش حالياً بصفة "لاجئ سياسي" بها، في مدينة بوردو.
البداية عندما اعتبرته حكومة بلاده محرضاً على التمرد
واهتمت وسائل الإعلام الفرنسية كثيراً بهذا الكتاب، الذي يتناول قصة واقعية تُجسد واحدة من المآسي العديدة التي عاشها -ولا يزال يعيشها- الآلاف من ضحايا تجار البشر مع عودة ظاهرة العبودية في ليبيا.
وبدأ الكابوس أو حياة الجحيم، في عام 2013، لما رأت الحكومة الغينية أن المحطة الإذاعية التي يعمل بها ألفا كابا صحفياً، باتت قناة إعلامية منتقدةً نظام حكم الرئيس ألفا كوندي، ومحرضة على التمرد.
ثم دمر أفراد من الجيش مقر الإذاعة المحلية الموجودة بمدينة كنكان، كما تم تهديد ألفا كابا بالموت، وهو ما اضطره إلى الهرب والبحث عن مكان آمن خارج بلاده.
الهجرة إلى الجزائر
وانطلقت رحلة الهروب مثلما يرويها ألفا كابا في كتابه، بالانتقال أولاً إلى شمال البلاد، حيث آواه أحد أصدقائه إلى حين انتظار مواصلة السفر نحو دولة غينيا بيساو المجاورة، حيث تقطن شقيقته.
لكن الأمور لم تسِر مثلما كان يخطط له، حيث واجه صعوبات كبيرة في الوصول إلى مقصده.
فقرر الذهاب إلى الجزائر بعد نصيحة من صحفي جزائري، مثلما جاء في الكتاب الذي صدر عن دار النشر الفرنسية "Fayard"، وطُرح للبيع بالمكتبات في فرنسا يوم 7 فبراير/شباط 2019.
"رميت بنفسي في فم الذئب"
وبقي ألفا كابا في الجزائر العاصمة شهراً واحداً، وهي المدة التي كانت كافية لربط علاقة صداقة مع مجموعة من الشباب الإفريقي القادم من جنوب الصحراء، والذين كانوا وراء اتخاذ قرار الرحيل إلى ليبيا، من أجل الهجرة السرية إلى أوروبا.
وهو القرار الذي علّق عليه الصحفي الغيني الهارب، بأسفٍ فات آوانه، قائلاً: "لم أكن أملك خياراً آخر؛ لقد كنت وحيداً وبعيداً عن أهلي.. ولكني رميت بنفسي في فم الذئب".
ووصل ألفا، البالغ من العمر 30 عاماً، إلى مدينة بني وليد الليبية، برفقة صديقين: عبد الله (من غامبيا)، ونداي (من السنغال).
وزير الهجرة الكندي أحمد حسين، الذي كان لاجئاً من قبل، يعلن أن #كندا تعتزم استقبال نحو 750 شخصاً من ضحايا العبودية في ليبيا، منهم 150 حصلوا حتى الآن على حق اللجوء في البلد.
تعرضت ليبيا لانتقادات حادة، بعد عرض شبكة "سي إن إن" وثائقياً يُظهر مهاجرين أفارقة يُباعون عبيداً pic.twitter.com/7NSByWS21q— AJ+ عربي (@ajplusarabi) February 7, 2019
هنا الأفارقة سلعة نادرة.. كيف بدأت مأساته مع العبودية في ليبيا؟
في بني وليد اكتشفوا سريعاً المصير المحدد لذوي البشرة السوداء، بحسب ما كتبه ألفا كابا.
إذ يقول: "بالنسبة لبعض الليبيين، فنحن نعتبر سلعة نادرة.
فمن المستحيل أن ترى رجلاً أسود يتجول في الشارع، لأنه سيتم القبض عليه بسرعة، ليتم بيعه باعتباره من العبيد".
وفعلاً، فقد اكتشف ألفا كابا عالم العبودية في ليبيا، حيث فرَّقه "أسياده" -كما يسميهم- عن أصدقائه وأجبروه على العمل في بساتين النخيل أو بورشات البناء.
ومن هنا بدأت قصته مع العبودية في ليبيا.
لماذا يطلقون الرصاص على الأقدام؟
ويقول: "إنه خلال فترة العبودية في ليبيا، كان يعذَّب ويعمل من أجل البقاء على قيد الحياة والأمل في الحصول على وجبة غذاء واحدة باليوم!".
وقد استمرت حياة الجحيم هذه عامين كاملين.
وكان حينها عبداً "يتعرض للضرب بالعصي على الرأس أو لطلقات الرصاص باتجاه القدم، عند معاقبته في حال عدم امتثاله للأوامر، وهي العقوبات التي لا يزال ألفا يحمل آثارها على جسده".
الموت لمن يطلب الطعام!
ويسرد ألفا كابا قصة مأساوية لشاب من دولة مالي، يُدعى إسماعيل (20 عاماً).
ففي أحد الأيام احتج العبيد الموجودون في المخيم نفسه على تأخر تقديم الطعام لهم، فطالبهم الحراس بالهدوء.
ولكن فجأة أطلقوا النار عليهم عشوائياً؛ وهو ما تسبب في اختراق إحدى الرصاصات حنجرة إسماعيل؛ وتوفي فوراً، فتكفل العبيد بدفنه دون تدخُُّل الحراس أو مساعدتهم.
تجارة الرق في #ليبيا عادتنا الى ما قبل #الإسلام فهل يعقل ان يتم ذلك في دولة عربية مُسلمة وقد تجازونا العبودية التي انهاها الاسلام منذ14قرن؟ pic.twitter.com/f18T48TxxD
— بدر الصلاحي (@adensky2) April 13, 2017
هؤلاء الأشخاص ليسوا ببشر
ويواصل ألفا رواية قصته متألماً، قائلاً: "عندما أعيد تذكُّر ما عشته هناك (يقصد مخيمات العبيد)، أقول لنفسي إنهم رجال بلا قلب. لا أملك حقداً تجاه شخص معين، ولكني أقول انهم بلا قلب، ولا يستحقون العيش في عصرنا الحالي".
وأضاف: ""كنت أشعر بالرغبة في الثورة، لكني لم أكن أستطع القيام بذلك".
وتابع: "إذا كانوا واعين بما كانوا يقومون به، فإنهم ليسوا ببشر، لأن امتلاك الرغبة في استغلال إنسان مثلك يختلف عنك فقط في لون بشرته، فإن هذا يعني أنك سيئ".
الأمل جاء من الصفقة التي عقدها معه سيده الليبي الأخير
وتم بيع ألفا باكا في بني وليد إلى "سيد" آخر، يقطن بمدينة صبراتة، والذي وعده بمساعدته على عبور البحر المتوسط باتجاه أوروبا في حالة اجتهاده بعمله، وهو الأمر الذي حدث فعلاً، حيث سُمح له أخيراً في أحد الأيام بركوب البحر".
وهكذا انتهت مأساة العبودية في ليبيا، لتبدأ مأساة أخرى.
ويسرد ألفا مغامرته البحرية ونجاته بأعجوبة من الغرق قبل الوصول إلى السواحل الإيطالية.
فيقول بدايةً متحدثاً عن منظمي الرحلة: "إنها عصابة منظَّمة جيداً ومدعومة أيضاً، لا أعرف مِن طرف مَن، ولكنها مدعومة من الناحية المالية".
وأضاف قائلاً: "فالطريقة التي صُمّم بها القارب المطاطي والمواد المستعملة في إنجازه تؤكد أنهم عصابة مدعومة"، حسب قوله.
150 شخصاً على قارب بينهم نساء وحوامل!
ويتذكر ألفا كابا أنه "في يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2016، كان هناك 150 شخصاً على القارب مستعدين للإبحار، من بينهم نساء حوامل وأطفال".
ويضيف: "لم يكن معنا جي بي إس.. والاتجاه الوحيد الذي طُلب منا متابعته للوصول إلى أوروبا هو نجم الشمال.
كانت ليلة حالكة السواد، والذعر متملك كل المسافرين. وبدأ القارب يشق طريقه شيئاً فشيئاً فوق مياه البحر".
حتى إن المسيحيين والملحدين كانوا يرددون: "الله أكبر"!
"عندما انطلقت الرحلة لم أعُد أفكر في أي شيء. وقد جفّ فمي، بسبب شدة الخوف"، هكذا يقول ألفا، واصفاً الذعر المحيط بكل المسافرين وهو واحد منهم.
وأضاف: "لجأنا إلى الدعاء والتكبير.. المسلمون والمسيحيون أيضاً وحتى إن الملحدين كانوا يرددون معنا: الله أكبر".
وقال: "لقد كنا ضائعين في وسط البحر، كما تعرض القارب لتسرب المياه مدة ساعة كاملة، وفقدنا حينها الأمل، قبل أن نلتقي باخرة الإنقاذ (الأكواريوس)، التي تستأجرتها منظمتا (إس أو إس مديتيرانيه) و(أطباء بلا حدود) لإنقاذ المهاجرين من الغرق في المتوسط".
ووصف بشاعة رحلته قائلا "حتى عدوي لا أتمنى له ما عشته".
وأخيراً.. وصل إلى إيطاليا محطة العبور ثم فرنسا للاستقرار
ونقلت باخرة الإنقاذ ألفا كابا ورفاقه إلى السواحل الإيطالية، حيث بقي الصحفي الغيني أسبوعاً واحداً في مركز لإيواء المهاجرين بمدينة بيروزي، لكنه فضل المرور إلى الجانب الآخر من جبال الألب، فانتقل إلى مدينة تورينو ثم إلى غرونوبل الفرنسية.
وقرر ألفا بعدها الذهاب إلى صديق بمدينة بوردو، شرح له كيفية الحصول على حق اللجوء، كما ابتسم له الحظ بفرصة تدريب تعليمي في معهد الصحافة لبوردو؛ ومن ثم تسهيل مهمته في الإجراءات الإدارية للاستقرار في فرنسا بصفة قانونية.
ولا يزال ألفا كابا يتذكر إفريقيا، خاصة أفراد عائلته الذين لا يزال أغلبيتهم يعيش في غينيا، وهو يتمنى أن يتمكن قريباً من احتضان ابنته الصغيرة التي تركها عند شقيقته منذ عام 2013.
ويأمل ألفا كابا أن ينجح من خلال مبيعات كتابه، في أن يؤسس جمعية خيرية لمساعدة المهاجرين الذين لا يزالون عالقين بليبيا.