في نادي الجزيرة النخبوي بقلب القاهرة توجد مقبرة الحيوانات الأليفة ، بين الأشجار، وعلى مساحة 60 متراً تقريباً انتشرت شواهد من الرخام الأبيض، كتب أحدهم بالإنكليزية ناعياً هرّته "شاتسي": "دائماً في قلوبنا.. 1998-2018″، فيما حمل شاهد قبر الكلب "داني" عبارة "الوفاء والحب.. 1974-1985".
ولا يهتم الرأي العام في مصر كثيراً بالحديث عن حقوق الحيوان، فالثقافة الشعبية تحمل أمثالاً تقلل من شأنها، مثل "كلب وراح"، و"الجنازة حارة والميت كلب"، تعبيراً عن عدم اكتراث المصريين بمصير جيرانهم على الأرض من الحيوانات.
وتُربي آلاف الأسر حيوانات أليفة في منازلها، دون أن يكون هناك مكان محدد لمن يريد دفن حيواناته الأليفة، في أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان، لكن مؤسسي نادي الجزيرة كان لهم رأي آخر تماماً.
فالنادي الذي تم تأسيسه عام 1882، هو الوحيد في مصر الذي يسمح لأعضائه بدخول حيواناتهم الأليفة، ويخصص مساحة لدفنها. نعم مقبرة حيوانات في قلب نادي الجزيرة في حي الزمالك الراقي في قلب جزيرة الزمالك.
مقبرة الحيوانات الأليفة من أيام الإنكليز
على مسافة قرابة 500 متر من بوابة النادي تقع المقبرة ذات الأرضية الرملية، التي تضم أكثر من 50 شاهد قبر، على مساحة نحو 60 متراً محاطة بالأشجار، وتلتف من حولها ملاعب الجولف.
ويضع أصحاب الحيوانات على قطعة من الرخام الأبيض اسم فقيدهم الحيوان، ونوعه، وتاريخ وفاته.
رئيس مجلس إدارة نادي الجزيرة عمرو جزارين يقول لـ "عربي بوست" إنّ "تاريخ المقبرة يعود إلى نشأة النادي على يد الإنكليز سنة 1882".
ووجود كتابات على الشواهد باللغة الإنكليزية لا علاقة له بتاريخ المكان، إذ إن معظم أعضاء نادي الجزيرة يتقنون عدة لغات.
وأضاف أنّ هدف وجود المقابر وقت الاحتلال الإنكليزي، يعود لحبهم المعروف للكلاب، خاصة كلاب الصيد، وكانوا بحاجة لمكان خاص بدفنها.
ناريمان، المحبة للحيوانات، التي تربي قطاً في منزلها تتأسف على عدم وجود مكان محدد لدفن الحيوانات في مصر.
الزوجة الثلاثينية التي تعوّدت على تربية القطط منذ سنوات تعلّق بابتسامة: "أينما يمكن أن ندفنهم، ندفنهم"، مشيرة إلى ضرورة أنّ يكون برفقتهم أحدٌ معروف في المنطقة، كي يفهم الناس أنهم يدفنون حيواناً وليس إنساناً.
الفقيد العزيز ريتمو
وجود المقابر هو رمز من رموز الرحمة، فنادي الجزيرة، حسب المدير جزارين، يسمح بدخول الأعضاء برفقة حيواناتهم التي يحترمونها ويحبونها.
ويعتبر أنه من الطبيعي أن ينعى الناس كلابهم بأشعار، ويقارن بين فقد الحيوان الأليف وفقد عضو من العائلة "عشت نفس الشعور حين مات لي كلبان، يشعر الناس كأنهم فقدوا أحداً من أسرتهم، والكلاب حبها لك غير مشروط".
رئيس النادي بدا على وجه التأثر وهو يأخذنا لمقرّ دفن حيوانَيْه الأليفين، كان لديه كلبان دفنهما في مقابر نادي الجزيرة، أحدهما رباه وهو في الجامعة وآخر بعده بخمسة وعشرين عاماً.
وأطلق جزارين على كلبه الأول من النوع البوليسي الألماني اسم "ريتمو"، على اسم سيارة "فيات" التي كانت تصنع في مصر، ووالده كان رئيساً لمجلس إدارة الشركة المصنعة.
فيما كان فقيده الثاني كلباً من نوع "لابرادور" واسمه "سماش"، وتستخدم تلك السلالة في المطارات كي تشم المخدرات والمفرقعات، والأكثر استخداماً في مساعدة فاقدي البصر، وهو كلب قابل للتدريب والتطويع وذكي ولديه وفاء حقيقي.
حين فقدهما الواحد تلو الآخر كان في حزن شديد، وبكى بشدة لوفاتهما "كانت بيننا لمدة 12 سنة علاقة صداقة وحب حقيقية"، يقول جزارين بحسرة.
وهناك أشخاص دفنوا أكثر من كلب لهم في نادي الجزيرة، إذ مات لهم كلاب على مدار أكثر من جيل، فعمر الكلاب قصير.
وتابع جزارين، وهو أب لثلاثة أبناء "كانا يستقبلاني حين أعود للبيت بترحاب شديد جداً، وعيونهما تظهر الكثير من الحب والإخلاص.. فراقهما قاس جداً، والبعض رفض اقتناء كلاب مرة أخرى كي لا يمر بتلك المحنة من جديد".
كان "سماش" حين يعلم أن الأسرة ستخرج للنادي يحضر الطوق الخاص به، وكان يعرف مكان لعبه جيداً "ينقصه فقط أن يتحدث معنا"، يتذكر الرجل.
وقبل ظهور الموبايل، كان "سماش" حين يأتي إلى المنزل أصدقاء العائلة يعرف من صوت آلة التنبيه في سيارتهم، وما إن يفتح الباب حتى يذهب لاستقبالهم.
ويبدعون في كلمات نعي حيواناتهم
وتزخر شواهد قبور الحيوانات الأليفة في نادي الجزيرة بعبارات الرثاء والاشتياق للحيوانات الفقيدة.
إحداهن كتبت على شاهد القبر "روكي أنا بحبك يا أجمل شيء في الدنيا"، أما صاحب الكلب فرفور فنعاه بوصفه أمير الأمراء، وكتب "سوف نفتقدك.. 1986-2001".
وحرصت رانيا الكردي على رثاء هرّتها في 2017 بكلمات: "بيبوس.. بدون وعي.. بدون فهم.. تغرب شمسك.. ترحل في ذهول.. في صمت مؤلم جريح تختنق المشاعر.. لكن الحقيقة أصعب مما يقال.. فوجع رحيلك عظيم.. كان أثقل من أن يتحمله البكاء.. حبيبي سيظل قلبي يبكيك إلى أن نلتقي".
فيما اختار أصحاب الهر ميشو لنعيه عبارة "ارقد في سلام يا ميشو… معنا دائماً في قلوبنا".
وفي الأول من أغسطس/آب الماضي، أعلن محافظ بني سويف شريف حبيب عن إعدام 17.333 ألف كلب ضال في شوارع المحافظة على مدار عام، بالتنسيق مع مديرية الطب البيطري، وشرطة المرافق.
ويعلق رئيس الجمعية المصرية لأصدقاء الحيوان، أحمد الشربيني، عن شيوع قتل الحيوانات الأليفة في الشوارع من قطط وكلاب في عدد من محافظات البلاد "سواء بإطلاق النار عليها أو تسميمها بأنه أصبح ظاهرة ممنهجة من قبل الحكومة".
وأشار إلى أن بعض المناطق تلجأ لإخصائها "حتى لا تتكاثر"، موضحاً أنّ ما يحدث للحيوانات في مصر بمثابة جريمة مكتملة الأركان، ومخالفة لكافة تعاليم الأديان.
وآخرون لا يجدون للدفن سوى الشوارع
واستنكر جزارين عدم وجود ثقافة لحماية الحيوانات في مصر.
وقال بأسى: "لا ثقافة في مصر لحماية الحيوانات، المسؤولون يبادرون بالتخلص من الحيوانات الضالة وقتلها رغم أنها يمكن تعقيمها".
ويعتبر أن الظروف الاقتصادية الصعبة تجعل الناس لا يهتمون بالرحمة بالحيوان "أقول لهم لا تقتنه، لكن لا تؤذه، حب الحيوان رحمة وصدقة جميلة".
ولا يزال جزارين يربي كلاباً، سواء مستنأسة أو من الشارع، إذ لديه 10 كلاب، بجانب قطط شوارع وقطط منزلية.
وقال: "حولّت بيتي لمكان لإيواء الحيوانات، وأسرتي كلها لديها ولع بالحيوانات وحبها، وأربي كلباً وقطة لا يبصران".
وأشادت دينا ذو الفقار وهي ناشطة مصرية في مجال حقوق الحيوان لـ "عربي بوست"، بكون "نادي الجزيرة النادي الوحيد المسموح فيه بالخروج مع الحيوانات، وأن هناك منطقة مخصصة لدفن الحيوانات في مقابر داخل النادي تخص الأعضاء، بعد الحصول على تصريح من إدارة النادي".
وأشارت إلى إمكانية الدفن أيضاً في مستشفى الشعب لمعالجة الحيوانات بمنطقة العباسية، وهو مستشفى حكومي.
وتؤكد الناشطة أنه في حضارة مصر القديمة كان الفراعنة يدفنون حيواناتهم معهم في قبورهم.
وتعتبر ذو الفقار أن الرحمة لا يجب أن تفرق، وليست حكراً على البشر، تجد في أحيان كثيرة حيوانات نافقة وتبادر بدفنها بنفسها، فتبحث عن حديقة وتحفر فيها لدفن الحيوان.
وكان لديها كلب مات في السادسة صباحاً، نزلت وحفرت في حديقة بجوار نادي الزمالك وقامت بدفنه "لكنني لم أنسه ومازلت أدعو له"، تقول الناشطة.
وهو ما أكدته الناشطة ناريمان بدورها "ندفن دوماً في الصحراء. سبق ودفنت في صحراء زهراء المعادي مرة، وقبلها محمية وادي دجلة، ومرة أخرى في الصحراء على الطريق الدائري".
وتعتبر فكرة وجود مكان محدد لدفن الحيوانات في نادي الجزيرة شيئاً جيداً جداً ومريحاً نفسياً لأي شخص عنده حيوان أليف.
ويشيع بين المصريين دفن الحيوانات في حدائق المنازل وفي الرصيف الفاصل بين الطرق، والذي يسمونه أيضاً الجزيرة.
لكن الفرق يبقى كبيراً بين مقبرة نادي الجزيرة المخصصة للحيوانات الأليفة الراقية، وبين الجزيرة الوسطى على الطريق، حيث المكان مباح للجميع، فحتى في الموت لا يتساوى لا البشر ولا الحيوانات.