على بُعد أمتار من مبنى رئاسة الوزراء، التفَّ حوله المعتصمون، على أنغام العود الشرقي الأصيل يهتفون "حرية نحنا بدنا حرية، من قال إن الشعب مات، وهيو بيسقط الحكومات"، هتاف دوى من قلب الميدان بينما كانوا يطالبون بإسقاط حكومتهم.
استحضر الأردنيون تلك الأجواء التي صاحبت تظاهرات ربيع 2011، التي ظن العرب أنها لن تخرج مرة أخرى في أي بلد، بعد ما جرى في العواصم العربية من تبعاتها، لكن الواقع كان مغايراً.
آلاف المواطنين ينزلون يومياً إلى مقر الدوار الرابع والمناطق المحيطة به، والسلطات الأمنية من الجهة الأخرى تغلق المنافذ الموصلة للوزارة، خوفاً من أن يتجاوزوا أو يقتحموا الحواجز، فخلقوا لأنفسهم طرقاً للتعبير، كان من بينها الموسيقى.
مهند العمري، واحد من هؤلاء، على أوتار عوده يعزف ويردد على أنغامه المتظاهرون الأغاني الوطنية، العمري أستاذ موسيقى في إحدى المدارس الخاصة في العاصمة عمّان، قال في حديث لـ"عربي بوست": "أنا بعرف أعزف وبحب العود، ما بعرف أهتف، وكانت طريقتي في المشاركة بالاعتصام هي العزف على العود والغناء".
احتجاج على طريقته الخاصة
مهند الذي تخرج في كلية الموسيقى والفنون من جامعة اليرموك، ويحمل درجة الماجستير في الموسيقى من الجامعة الأردنية، عمل مع العديد من المنظمات الدولية التي تهتم باللاجئين، يرى أنه مسؤول عن إيصال رسالة الآلاف عبر ما يجيده ويستطيع أن يعبر به عن طلبات أبناء شعبه، على حد تعبيره.
العمري يشير إلى أن الشارع الأردني اليوم يعبر عن غضبه برقي، إذ إنه وعلى مدار ستة أيام منذ بدأت الاحتجاجات أخذ كل منهم طريقته في التعبير عن الرفض، بين التصوير والتوثيق والهتاف والغناء واللقطات التمثيلية، غزلوا المشهد متكاملاً، مطالبين بمطالب واحدة، وقف الفساد الذي طال بيوتهم.
مهند ابن الثلاثين عاماً يطالب حكومة بلاده بمطالب أساسية، قال إنه من حق كل إنسان أن يتمتع بها على حد تعبيره، من أهمها أن تتعلم الحكومات سماع الشعب ومطالبه، وسقوط أشكال الفساد كافة.
مؤكداً أنه سيبقى مشاركاً بالاعتصامات حتى تتم المطالب، وسيبقى يردد كلمات أغنيته التي بدأ بترديدها عند الدوار الرابع "درب الراتب واحد ودروب السرقة 100 موت يا مواطن ليعشوا الحرامية"، حتى يجد من يسمع نداءه ويحسن الحالة التي يعيشها المواطن البسيط.
اعتصام حتى تنفيذ المطالب
وتضامناً مع رفض المشروع، واتباعاً لمنهج الابتعاد عن العنف وسفك الدماء والشغب والإيذاء، بدأ العمري رسالته من خلال الغناء والعزف على العود، "إذ إن الموسيقى لغة يفهمها الجميع، من درك وشعب وأطفال ومسؤولين، وهي تبعث على الحب والسلام بعيداً عن العنف والوحشية.
لليلة السادسة يعتصم آلاف الأردنيين في منطقة الدوار الرابع، رفضاً لما سموها سياسات الإفقار الحكومية، يطلقون النداءات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وبعدها يخرجون إلى الشوارع، ملبّين نداءات النقابات المهنية التي أطلقت شرارة الاحتجاجات، من خلال إضراب عام شمل المهندسين والمهن الطبية، ومختلف النقابات العمالية، رفضاً لمشروع ضريبة الدخل.
ويطالب الأردنيون بسحب مشروع قانون ضريبة الدخل، إلى جانب تغيير المنهج الاقتصادي، والتحرر من سلطة صندوق النقد والبنك الدوليين، وليس فقط إقالة حكومة الملقي، التي أثقلت عليهم بالقرارات الاقتصادية والضرائب.
اعتصام الدوار الرابع، بدأ مساء الخميس الماضي، بعد رفع الحكومة أسعار المشتقات النفطية بنسب تتراوح بين 3-5%، إذ أوقف المحتجون مركباتهم قرب رئاسة الوزراء، ضمن حملة "صفها واطفيها"، في دعوة لمقاطعة محطات المحروقات، والضغط على الحكومة من خلال عدم التزود بالوقود وتعطيل حركة السير، في إحدى طرق الاحتجاج السلمي التي يدعو إليها المواطنون.
وأغلق الأمن منطقة الدوار الرابع على المارة، بعد بدء استجابة المواطنين لدعوات إيقاف مركباتهم أمام رئاسة الوزراء، احتجاجاً على رفع أسعار المحروقات.
الاستقالة وحدها لا تكفي
واستمرَّ المواطنون بالاحتجاج قرب الدوار الرابع، رغم تراجع الحكومة عن رفع الأسعار لشهر يونيو/حزيران الحالي، وبقيت مظاهر الاعتصام والاحتجاج قائمة، على الرغم من مغادرة حكومة الدكتور هاني الملقي. قال شهود عيان إن تعزيزات أمنية لوحظت في محيط رئاسة الوزراء، بعد دعوات إطفاء سيارات المواطنين أمام الرئاسة.
ويبدو غالبية المشاركين في الحراك الحالي لم يكفهم استقالة حكومة هاني الملقي، إذ تشمل مطالبهم إعادة دعم الخبز والمحروقات، وإعفاء السلع الأساسية من ضريبة المبيعات، وسحب مشروع قانون ضريبة الدخل ونظام الخدمة المدنية، وهو ما لم يتحقق أي منه حتى الآن. فالمطلوب بحسب شعاراتهم هو تغيير النهج والسياسات، لا رؤساء الحكومات. رغم أن جزءاً من حراك الشارع بات مرتاحاً بعد تكليف عمر الرزاز رسمياً بتشكيل حكومة جديدة، باعتبارها أولى خطوات الإصلاح الحقيقي التي قد تؤدي إلى تحقق باقي المطالب، نتيجة المواصفات الجيدة التي يتمتع بها الرزاز مقارنة بسابقيه.
الارتياح النسبي في الشارع لتعيين الرزاز يأتي بسبب سيرته المهنية الجيدة، فقد شغل مواقع في البنك الدولي، ثم ترأس مؤسسة الضمان الاجتماعي، فصندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، ومنتدى الاستراتيجيات الوطني، ولجنة تقييم التخاصية، إلى جانب وزارة التربية والتعليم وقيادة فريق الاستراتيجية الوطنية للتشغيل.