حسن محمد في حالة اتصال دائم عبر هاتفه الذكي، ليتابع أسعار عملة البيتكوين الرقمية المشفرة المثيرة للجدل باستمرار عن طريق تطبيق على الهاتف المحمول.
استخدام محمد -البالغ 38 عاماً وأبٌ لطفلين- للعملة الرقمية ليس بهدف المضاربة في الأساس، بل يعتمد عليها في تجارته الصغيرة على الإنترنت لاستيراد قطع غيار الحواسيب وآلات الطباعة وغيرها من الإلكترونيات.
وتجري معظم معاملاته التجارية عن طريق موقع Newegg.com، الذي يقبل بيتكوين كمصدرٍ مشروع للدفع.
باع محمد، كما يقول لموقع ميدل إيست آي البريطاني بضائع تخطت قيمتها الـ100 ألف دولار أميركي خلال سبع سنوات "ولا أعتقد أنَّه كان باستطاعتي تحقيق ذلك عن طريق البنوك، نظراً لوجود الكثير من القيود".
تسمح العملات الرقمية المشفرة مثل البيتكوين بمعاملات الند للند المجهولة بين المستخدمين الأفراد، دون الحاجة للبنوك المركزية.
وبالنسبة لمحمد، فقد نجح في توفير 33% على الأقل من رسوم المعاملات المصرفية، التي عادةً ما تفرض رسوماً بقيمة 3.5% على كل معاملة.
بدأ تداول عملة بيتكوين عام 2009، وتعرَّف عليها محمد عام 2010 أثناء عمله عبر الإنترنت كموظف إدخال بيانات للشركات الأجنبية في الخارج. وحصل على أجره مقابل خدماته عن طريق البيتكوين، والذي وصفه بأنَّه أسهل وأكثر فاعلية من أنظمة الدفع التقليدية.
وقتها، كانت قيمة البيتكوين الواحد تساوي 27 دولاراً فقط. لكن بحلول 19 يناير/كانون الثاني 2018، وصلت قيمة البيتكوين لحوالي 12 ألف دولار أميركي.
لماذا تحولت البيتكوين إلى ضرورة لبعض المصريين؟
أرهبت ثورة عام 2011 -التي أطاحت بالرئيس المصري حسني مبارك- الكثير من السياح والمستثمرين. وأدى ذلك إلى نقصٍ في مخزون الدولار بالبلاد، وبالتالي تشديد القيود على التحويلات البنكية.
بعد تحرير سعر صرف الجنيه، وبالرغم من تحسن وضع السيولة في البنوك ورفع القيود عن رأس المال، في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، كجزءٍ من اتفاقية للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار أميركي من صندوق النقد الدولي، ما زالت الشركات تلجأ للسوق السوداء من أجل الحصول على الدولار الذي لا زال يعاني من النقص في النظام المصرفي الرسمي.
وقالت ريم سليم المحللة الاقتصادية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية بالكويت: "تسمح عملة البيتكوين بالوصول السلس إلى الأسواق الأجنبية، بكل حريةٍ ومرونةٍ كاملة. إذ يُمكن التعامل بها في أي وقتٍ وأي مكان، دون رسوم عالية أو إجراءاتٍ بيروقراطية".
كيف استقبل المتعاملون الفتوى؟
في الأول من يناير/كانون الثاني 2018، قال شوقي علام مفتي الديار المصرية إنَّ التداول باستخدام البيتكوين "حرام" شرعاً، وفقاً للتعاليم الإسلامية.
وأكد الدكتور شوقي علّام بأن السبب في تحريم التداول بالعملة هو "عدم اعتبارِها كوسيطٍ مقبولٍ للتبادلِ من الجهاتِ المخُتصة، ولِمَا تشتمل عليه من الضررِ الناشئ عن الغررِ والجهالةِ والغشِّ في مَصْرِفها ومِعْيارها وقِيمتها، فضلاً عما تؤدي إليه ممارستُها من مخاطرَ عاليةٍ على الأفراد والدول".
وقال علّام إن "سك العملةِ وإصدارها حقٌّ خالصٌ لولي الأمر أو من يقوم مقامه من المؤسسات النقدية،" وأن الدولة تحدد معايير صرف العملات ومعاييرها لتجنّب "التزييف والتلاعب والتزوير، سواء بأوزانها أو بمعيارها".
وشبّه المفتي في بيانه التداول بالعملة "بالمقامرة"، لأنها تؤدي "للخراب المالي" للأفراد والمؤسسات، وأن "شيوعَ مثلِ هذا النمط من العملات والممارسات الناتجة عنها يُخِلُّ بمنظومة العمل التقليدية التي تعتمدُ على الوسائطِ المتعددة في نقل الأموال والتعامل فيها كالبنوك، وهو في ذات الوقت لا يُنشِئُ عملة أو منظومة أخرى بديلة منضبطة ومستقرة، ويُضيِّق فرص العمل"، حسب قوله.
جاءت الفتوى بعد أسبوعين من إعلان الهيئة العامة للرقابة المالية المصرية المسؤولة عن تنظيم الأسواق المالية غير المصرفية أنَّ تداول البيتكوين غير قانوني في مصر.
وأضاف محمد عمران رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية أنَّ الهيئة ستُصدر قريباً تفاصيل أكثر عن التداول باستخدام عملة البيتكوين، وأكد أنَّ أي نشاطٍ غير مسموحٍ به سيُعتبر خروجاً عن القانون، وتُفرض بناءً عليه عقوبةٌ على أي شخصٍ يستخدمها، دون توضيح طبيعة تلك العقوبات.
وأوضح عمران أنَّ العملية الرقمية المشفرة تحمل مخاطر "التلاعب، وضعف المعرفة، والغش". وأضاف أنها يُمكن أن توفر "مصادر تمويلٍ آمنة ومستقرة للإرهابيين والجماعات الإجرامية". لكنَّ تلك الإعلانات لم تردع كثيراً من المصريين الذين استمروا في تداول هذه العملة والاستثمار فيها.
فقد وصف محمد تصريحات علام بأنها "سخيفة للغاية"، حسب تعبيره، معتبرا أنَّ السلطات "تخشى" سوق البيتكوين.
وما خلفيات الفتوى من وجهة نظر المستثمرين؟
وفقاً لعمر، الذي يعمل سمساراً في البورصة وفضّل منح موقع ميدل إيست آي اسمه الأول فقط، فإنَّ "الفتوى سياسية في المقام الأول"، وتابع قائلاً إنَّ تصور علام للعملة المشفرة "ليس دقيقاً، وأنَّه لا يُدرك كيفية عمل هذا الجيل الجديد من العملة".
وأضاف السمسار (25 عاماً، مسلم) أنَّ المستثمرين لا يشغلهم أمر الفتوى، ووصفها بـ"غير المنطقية"، حسب تعبيره.
وقال عمر: "لدي 60 عميلاً يمتلكون حساباتٍ قيمة كلٍّ منها حوالي 350 ألف دولار أميركي، ولم يطلب أيٌّ منهم سحب أمواله. المستثمرون لا يأخذون الفتاوى بعين الاعتبار. المستثمرون يقيمون موقفهم وفقاً للمكسب والخسارة. وسأستمر في التعامل بالبيتكوين دون شك".
ويقول أحمد يوسف، وهو سمسار يُدير حسابات بيتكوين قيمتها حوالي 1 مليون دولار أميركي لقرابة الـ100 عميل، إنَّ تأثير الفتوى كان "محدوداً".
وتابع يوسف، الذي تحدث تحت اسمٍ مُستعار: "أي شيءٍ في بدايته يصدم المؤسسات الدينية، قبل أن يتراجعوا عن موقفهم في النهاية. ومصداقية المؤسسات الدينية عموماً في تراجع، ولهذا أصبح تأثيرها محدوداً للغاية. والأشخاص الذين يتداولون عملة البيتكوين ويستثمرون فيها محبون للمخاطرة، أو مقامرون إن صح التعبير. والمقامرون لا يرجعون للفتوى الشرعية قبل المقامرة".
ووفقاً ليوسف، يصل الأمر بالبعض إلى بيع سياراتهم وممتلكاتهم للاستثمار في البيتكوين.
وأوضح يوسف: "منذ ثلاثة أسابيع، أتى أحد أصدقائي إلى باب منزلي الساعة الثالثة صباحاً ومعه 900 ألف جنيه مصري (50.500 دولار). وطلب مني أن أشتري له تلك العملة الجديدة. دون أن يعرف اسمها حتى".
تعاملات إجرامية .. هل يوجد نص ديني يحرم البيتكوين؟
تقول ريم إنَّه "لا يوجد نصٌ قرآنيٌّ أو ديني صريح يُمكن استخدامه لتحريم تداول البيتكوين أو أي عملةٍ إلكترونيةٍ أخرى. ولا يوجد إجماع على هذا التحريم بين علماء الدين، لذا فهذه الفتوى هي مجرد رأي لرجل دينٍ أو اثنين".
ويشعر المنتقدون للعملة بالقلق إزاء سرية هوية المستخدمين، مُدَّعين أنَّ العملات المشفرة يُمكن استخدامها في الأنشطة الإجرامية، مثل: غسيل الأموال وتهريب المخدرات والتهرب الضريبي.
وهو ما دفع المملكة المتحدة وبعضاً من حكومات الاتحاد الأوروبي الأخرى لإعلان خططها لتقنين البيتكوين وغيرها من العملات المشفرة، وإرغام المتداولين على الإفصاح عن هوياتهم.
وصرَّح مسؤولٌ من قسم الجرائم السيبرانية في وزارة الداخلية المصرية: "لم نستقبل أي شكوى متعلقة بالبيتكوين حتى الآن. وليست لدينا أي نيةٍ أو أوامر لملاحقة متداولي البيتكوين".
وبالنسبة ليوسف، فإنَّ حظر البيتكوين سيكون مشابهاً لحظر الإنترنت. وقال: "الأسباب غير منطقية. الإرهاب وغسيل الأموال والجرائم الإلكترونية يُمكن تسهيلها أيضاً عن طريق الإنترنت والدولار. هل علينا أن نُحرِّم الإنترنت والدولار؟ الأزمة هنا في طريقة الاستخدام، وليس البيتكوين نفسه".
وفي أغسطس/آب 2017، ذكرت وكالة رويترز أنَّ أول بورصة مصرية لتداول البيتكوين ستبدأ عما قريب، لكنَّ إطلاقها تأجل إلى أجلٍ غير مسمى.
ونظراً لتجريم تداول البيتكوين في البورصة المصرية، يتداول عمر ويوسف البيتكوين نيابةً عن عملاء مصريين لهما في البورصات الأجنبية.
هل هي فقاعة على وشك الانفجار؟
في 9 يناير/كانون الثاني 2017، حذَّر البنك المركزي المصري في بيانٍ له من المخاطر العالية للعملات المشفرة، وأضاف أنَّها غير مستقرةٍ إطلاقاً نتيجة "المضاربة التي لا تحكمها أي قواعد، والتي تجعل الاستثمار فيها مخاطرةً تنطوي على خسائر محتملة ضخمة".
وأكد البنك المركزي المصري أنَّ المعاملات داخل مصر "تقتصر فقط على العملات الرسمية المعتمدة من البنك المركزي فقط"، ولا تشمل تلك العملات البيتكوين.
وبعد نحو ثمانية أيام، أي فِي يوم الأربعاء 17 يناير/كانون الثاني 2017، انخفض سعر البيتكوين -أكبر وأشهر عملة مشفرة في العالم- لنصف قيمتها القياسية التي بلغت 20 ألف دولارٍ تقريباً (354 ألفاً و340 جنيهاص مصرياً)، ولكن بحلول يوم الخميس 18 يناير/كانون الثاني 2017، استعادت البيتكوين حوالي 18% من تلك القيمة التي خسرتها.
وأثارت سلسلة التقلبات الشديدة هذه مخاوف محمد وغيره، من كون هذا الوضع فقاعةً على وشك الانفجار.
وعلق محمد قائلاً: "نحن، الأشخاص الذين تداولوا في هذه العملة عندما كانت قيمتها بضعة سنتات فقط، نعرف أنَّها فقاعةٌ على وشك الانفجار. فهذا ليس سعراً سوقياً عادلاً ولا منطقياً".
ورغم عدم الاستقرار، أكد محمد أنَّه سيستمر في محاولاته للتربح من الأمر قبل أن "ينهار السعر إلى 5000 دولار" كما يتوقع. لكنَّ ريم ترى أنَّه من الصعب توقع ما سيحدث مستقبلاً.
وعلَّقت ريم: "هناك حالة من عدم الثقة في السوق. كل الاحتمالات واردة. يُمكن أن ترتفع أسعار البيتكوين أو تنخفض. ليست هناك قواعد ثابتة".
وقال عمر: "يمر السوق بمرحلةٍ من القلق وعدم الاستقرار" عندما يتعلق الأمر بالبيتكوين.
ولم تدفع حالة غموض المستقبل أياً من عملاء عمر إلى التسرع في بيع ما لديهم من عملة البيتكوين، آملين في أن تعاود أسعارها ارتفاعها. لكنَّ هذه الحالة ثبطت عزائم المستثمرين الجدد في هذا السوق.
لكنَّ ريم لا تزال متفائلةً بشأن العملة المشفرة، بالرغم من تقلبها.
وأضافت: "بالرغم من الانخفاض الرهيب في سعر البيتكوين هذه الأيام. يظل هذا السعر أعلى بكثير من العام الماضي.
وأردفت قائلة: لا يُمكن لأحدٍ أن يجزم أنَّ البيتكوين بعيدة عن أن تتحول إلى فقاعةٍ اقتصادية. لكنَّ ربما تكون مخاطرها محدودة بالمقارنة مع الفقاعات التقليدية الأخرى مثل فقاعة الرهن العقاري.
وتضيف: ونظراً لامتلاك البيتكوين مرونةً أكبر وصموداً أكثر صلابة أمام الصدمات، أكثر من الأصول التقليدية. وتعرضت العملة بالفعل للعديد من الأخبار السيئة، لذا يعمل المطورون باستمرار على تطويرها وخلق أساليب جديدة في معاملات البيتكوين لمواجهة تقلبات السوق".
ماذا لو فتحنا باباً مقنناً أمام مستخدمي البيتكوين في مصر؟
نصحت ريم البنك المركزي المصري أن "يُحاول تنظيم ومراقبة معاملات البيتكوين، ويحاول الاستفادة من هذه العملة في البورصة كما فعلت الإمارات العربية المتحدة".
واقترحت: "ماذا لو فتحنا باباً مقنناً أمام ملايين مستخدمي البيتكوين ليتداولوا في مصر؟ يُمكنهم أن يأتوا كسياح ويدفعوا باستخدام البيتكوين ويشتروا الجنيهات المصرية، أو يستثمروا في البورصة المصرية؟ أعتقد أنَّ هناك فوائد لذلك".
وأكد يوسف أنَّ المشكلة الرئيسية هي خوف السلطات من الأنشطة التي لا يُمكنها رؤيتها أو مراقبتها.
وأضاف: "لقد حظروها لأنَّهم لا يستطيعون مراقبتها. وإذا استطاعوا مراقبتها، فسيسمحون بتداولها. الأمر بهذه البساطة".